من حلف ان لايفعل شيئا ففعله اوليفعلنه ولم يفعله : كتاب الايمان

كتاب الأيمان

1385 ـ مسألة : (ومن حلف أن لا يفعل شيئاً ففعله أو ليفعلنه في وقت فلم يفعله فيه فعليه كفارة يمين) ، والأصل في ذلك قول الله سبحانه : لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة 'سورة المائدة : الآية 89'، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها متفق عليه ، وقال عليه السلام : إذا حلف أحدكم على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه متفق عليه ، وقال لعبد الرحمن : إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك فإذا حلف أن لا يفعل شيئاً ففعله فقد حنث ولزمته الكفارة ، وكذلك إن حلف ليفعلنه في وقت فلم يفعله فيه كقوله : لأصومن غداً فلم يصم حنث ولزمه الكفارة لا خلاف في هذا بين فقهاء الأمصار ، قال ابن عبد البر : اليمين التي فيها الكفارة بإجماع المسلمين هي اليمين على المستقبل من الأفعال .
1386 ـ مسألة : (إلا أن يستثني فيقول لا فعلت إن شاء الله ، أو لأفعلن إن شاء الله متصلاً بيمينه) فلا يحنث إن فعله أو لم يفعله لقول النبي صلى الله عليه وسلم : من حلف على يمين فقال إن شاء الله فقد اسثتنى رواه أبو داود من حديث ابن عمر .
1387 ـ مسألة : (وإن حلف أن لا يفعل شيئاً ففعله مكرهاً أو ناسياً لم يحنث) لقوله عليه الصلاة والسلام : إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ولأن فعل المكره لا ينسب إليه فلم تجب عليه كفارة كما لو لم يفعله .
1388 ـ مسألة : (ولا كفارة في الحلف على ماض سواء تعمد الكذب أو ظنه كما حلف فلم يكن) وذلك أن اليمين على الماضي ينقسم ثلاثة أقسام : ما هو فيه صادق فلا كفارة فيه إجماعاً ، وما هو متعمد الكذب فيه فهي تسمى يمين الغموس لأنها تغمس صاحبها في الإثم ولا كفارة فيها في ظاهر المذهب ، وقال الشافعي رضي الله عنه : فيها الكفارة ، وعن الإمام أحمد مثله لأنه وجدت منه اليمين والمخالفة مع القصد فلزمته الكفارة كالمستقبلة ، ولنا أنها يمين غير منعقدة فلا توجب كفارة كاللغو أو يمين على ماض فأشبه اللغو . وبيان أنها غير منعقدة أنها لا توجب براً ولا يمكن فيها ، ولأنها قارنها ما ينافيها وهو الحنث فلم تنعقد كالنكاح إذا قارنه الرضاع ، ولأن الكفارة لا ترفع إثمها فلا تشرع فيها بدليل أنها كبيرة فإنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :الكبائر الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وقتل النفس ، واليمين الغموس رواه البخاري . وروي فيه خمس من الكبائر لا كفارة لهن : الإشراك بالله ، والفرار من الزحف ، وبهت المؤمن ، وقتل المسلم بغير حق ، والحلف على يمين فاجرة يقتطع فيها مال امرىء مسلم ولا يصح القياس على المستقبلة لأنها يمين معمودة فتجب الكفارة في حلها ، وهذه لا عقد لها فلا حل لها . قال ابن المنذر : قول النبي صلى الله عليه وسلم : فليكفر عن يمينه ، وليأت الذي هو خيريدل على أن الكفارة إنما تجب بالحلف على فعل يفعله فيما يستقبله . القسم الثالث ما يظنه فيتبين بخلاف ما ظنه فلا كفارة فيها لأنها من لغو اليمين ، واللغو نوعان : أحدهما هذه لا كفارة فيها لأنها يمين غير منعقدة لأن الحنث مقارن لها فأشبهت يمين الغموس ، ولأنه غير قاصد المخالفة فأشبه ما لو حنث ناسياً . وعن الإمام أحمد أنه ليس من لغو اليمين وفيه الكفارة ، والمذهب الأول لما سبق . النوع الثاني من اللغو (أن يحلف بلسانه من غير أن يعقد عليها قلبه بل تمر على لسانه من غير قصد إليها) وقال عطاء : قالت عائشة رضي الله عنها : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يعني في اللغو في اليمين : هو كلام الرجل في بيته : لا والله ، وبلى والله أخرجه أبو داود ، وروي عن عائشة موقوفاً قالت : أيمان اللغو ما كان في المراء والهزل والمزاحة والحديث الذي لا يعقد عليه القلب ، ولأن اللغو في كلام العرب الكلام غير المعقود . وهذا كذلك . وإذا ثبت هذا فاللغو لا كفارة فيه ، لقول الله سبحانه : لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين 'سورة المائدة : الآية 89' فجعل الكفارة لليمين التي يؤاخذ بها ، ونفي المؤاخذة باللغو فيلزم انتفاء الكفارة .
1389 ـ مسألة : (ولا تجب الكفارة إلا في اليمين بالله تعالى أو اسم من أسمائه أو صفة من صفات ذاته كعلمه وكلامه وعزته وقدرته وعظمته وعهده وميثاقه وأمانته) أجمع أهل العلم على أن من حلف بالله عز وجل فقال : والله أو تالله أو بالله فحنث أن عليه الكفارة . قال ابن المنذر : وكان مالك والشافعي وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب الرأي يقولون : من حلف باسم من أسماء الله عز وجل فحنث فعليه الكفارة ولا نعلم في ذلك اختلافاً ، وكذلك إن أقسم بصفة من صفات ذات الله تعالى في قولهم جميعاً ، وقال أبو حنيفة في قوله وعلم الله لا يكون يميناً : لأنه يحتمل المعلوم ، قلنا يبطل بقوله وقدرة الله فإنه يحتمل المقدور وقد سلموه .
1390 ـ مسألة : (إلا في النذر الذي يقصد به اليمين فإن كفارته كفارة يمين) وذلك أنه متى أخرج النذر مخرج اليمين - بأن يمنع نفسه أو غيره به شيئاً ، أو يحنث به على شئ مثل أن يقول : إن كلمت زيداً فعلي الحج أو صدقة مالي أو صوم شهر - فهذا يمين حكمه أنه مخير بين الوفاء بما حلف عليه فلا يلزمه شئ ، وبين أن يحنث فيتخير بين فعل المنذور وكفارة يمين ، ويسمى هذا نذر اللجاج والغضب ، ولا يتعلق عليه الوفاء به ، وإنما يلزم نذر التبرر على ما سبق في باب النذر . مسألة : وقيل لا شئ عليه بالحلف بالحج ولا بصدقة ماله ، لأن الكفارة إنما تلزم بالحلف بالله سبحانه لحرمة الاسم ، وهذا ما حلف باسم الله ولا يجب ما سماه لأنه لم يخرجه مخرج القربة وإنما التزمه على طريق العقوبة فلا يلزمه ، وقال أبو حنيفة : يلزمه كنذر التبرر . ولنا ما روي عن عمران بن حصين قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا نذر في غضب ، وكفارته كفارة يمين أخرجه الجوزجاني وسعيد بن منصور . وعن عائشة رضي الله عنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من حلف بالمشي أو الهدي أو جعل ماله في سبيل الله عز وجل أو في المساكين أو في رتاج الكعبة فكفارته كفارة يمين ولأنه قول عمر وابن عباس وابن عمر وعائشة وحفصة وزينب بنت أم سلمة رضي الله عنهم أجمعين ولا مخالف لهم في عصرهم نعلمه فكان إجماعاً ، ولأنه يمين فيدخل في قوله : ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين 'سورة المائدة : الآية 89' ودليل أنه يمين أنه يسمى بذلك ويسمى قائله حالفاً ، وفارق نذر التبرر فإنه لم يخرجه مخرج اليمين وإنما قصد به التقرب ، وها هنا خرج مخرج اليمين فأشبهها من وجه وأشبه النذر من وجه فخيرناه بين الوفاء به والكفارة ، وعن أحمد يتعين عليه الكفارة ولا يجزيه الوفاء بنذره لأنها يمين ، والأول أولى لأنه جمع الصيغتين فيجب العمل بهما والخروج من عهدته بما يخرج به عن عهدة كل واحد منهما .
1391 ـ مسألة : (لو حلف بهذا كله) يعنى بأسماء الله وصفاته (والقرآن جميعه فحنث أو كرر اليمين على شئ واحد قبل التكفير أو حلف على أشياء بيمين واحدة لم يلزمه أكثر من كفارة) أما إذا حلف بالله وصفاته كلها أو كرر اليمين على شئ واحد مثل قوله عليه السلام : والله لأغزون قريشاً ، والله لأغزون قريشاً ثم حنث فليس عليه إلا كفارة واحدة، وقال أصحاب الرأي : عليه كفارات إذا كررت اليمين إلا أن يقصد التأكيد ، لأن أسباب الكفارات تكررت فتتكرر الكفارات كالقتل وإتلاف صيد الحرم ، ولأن اليمين الثانية مثل الأولى فتقتضي ما تقتضيه ، ولنا أنها أسباب كفارات من جنس فتداخلت كالحدود من جنس واحد ، وقد ثبت الأصل بقوله عليه السلام : الحدود كفارات لأهلها ، ولأن الثانية لا تفيد إلا ما أفادته الأولى فلم يجب أكثر من كفارة كما لو قصد التأكيد ، وقياسهم ينتقض بما إذا قصد التأكيد .
1392 ـ مسألة : (وأما إذا حلف بالقرآن جميعه فحنث فعليه كفارة واحدة نص عليه ، وعنه يلزمه لكل آية كفارة، روي ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه ، وقال الإمام أحمد لا أعلم شيئاً يدفعه ، وعن مجاهد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من حلف بسورة من القرآن فعليه بكل آية كفارة يمين ، فمن شاء بر ومن شاء فجر ، رواه الأثرم . ووجه الأولى قوله : ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين 'سورة المائدة : الآية 89' . وهذه يمين فتدخل في عموم الآية ، ولأنها يمين فلم توجب أكثر من كفارة كسائر الأيمان ، ولأن أيجاب كفارات بعدد الآيات يفضي إلى منع الحالف من البر والتقوى والإصلاح بين الناس، وقد نهى الله سبحانه عن ذلك بقوله ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس 'سورة البقرة : الآية 224' ولأن الحالف بصفات الله كلها وتكرار اليمين بالله سبحانه لا يوجب أكثر من كفارة فالحلف بصفة واحدة من صفاته أولى أن تجزيه كفارة ، ويحمل كلام أحمد على الندب لا على الإيجاب ، فإن المنصوص عنه لكل آية كفارة فإن لم يمكنه فكفارة واحدة ، ورده إلى واحدة عند العجز دليل على أن ما زاد عليها غير واجب والله أعلم . وحديث مجاهد مرسل ، وقول ابن مسعود يحمل على الاختيار والاحتياط لكلام الله سبحانه والمبالغة في تعظيمه لاغير .
1393 ـ مسألة : (وإن حلف على أشياء بيمين واحدة لم يلزمه أكثر من كفارة) لأنها يمين واحدة كقوله : والله لا أكلت ولا شربت ولا لبست ، وإن حنث في جنس انحلت في الجميع ولزمته الكفارة ولا نعلم في هذا خلافاً .
1394 ـ مسألة : (وإن حلف أيماناً على أشياء فقال : والله لا أكلت ولا شربت ولا لبست فحنث في الجميع فعليه لكل يمين كفارتها) نص عليه في رواية المروذي وقال أبو بكر : تجزيه كفارة واحدة نقلها ابن منصور عن الإمام أحمد ، قال القاضي : وهي الصحيحة ، قال أبو بكر : ما نقله المروذي عن أحمد قول أول لابي عبد الله ، ومذهبه أن كفارة واحدة تجزيه لأنها كفارات من جنس واحد فتداخلت كالحدود من جنس واحد إذا اختلفت محالها بأن يسرق من جماعة أو يزني بنساء ، ولنا أنها أيمان لا يحنث في إحداهن بالحنث في الأخرى فلم تكفر إحداها بكفارة الأخرى كما لو كفر عن إحداها قبل الحنث في الأخرى كالأيمان المختلفة الكفارة ، وهذا فارق الايمان على شئ واحد فإنه متى حنث في إحداها كان حنثاً في الأخرى ، فلما كان الحنث واحداً كانت الكفارة واحدة ، وها هنا الحنث متعدد فكانت الكفارة متعددة .
1395 ـ مسألة : (ومن تأول في يمينه فله تأويله إلا أن يكون ظالماً فلا ينفعه تأويله لقوله عليه السلام : يمينك على ما يصدقك به صاحبك ومعنى التأويل أن يقصد بكلامه محتملاً يخالف ظاهره ، نحو أن يحلف أن هذا أخي ويعني به أنه أخوه في الإسلام أو المشابهة ، وما رأيت فلاناً يعين ما ضربت برئته ، ولا ذكرته يعني ما قطعت ذكره ، أو يقول جواري أحرار يعني سفنه ونسائي طوالق يعني أقاربه دون زوجاته، فهذا وأشباهه إذا عناه بيمينه فهو تأويل لأنه خلاف الظاهر، فلا يخلو الحالف من ثلاثة أحوال : أحدها أن يكون مظلوماً مثل أن يستحلفه سلطان على شئ لو صدق عنده لظلمه أو ضره ، أو يخاف على مسلم من ظالم فيحلف عنه ، فهذا له تأويله لقوله عليه السلام : إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب يعني سعة . الثاني أن يكون الحالف ظالماً كالذي يستحلفه الحاكم فهذا ينصرف يمينه إلى ظاهر اللفظ . ولا ينفعه تأويله ، لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يمينك على ما يصدقك به صاحبك رواه أبو داود ، ولو ساغ ذلك للظالم لكان وسيلة إلى جحد الحقوق ، لأن مقصود اليمين تخويف الحالف ليرتدع عن الجحود خوفاً من عاقبة اليمين الكاذبة ، فإذا ساغ له التأويل انتفى ذلك وصار وسيلة إلى إبطال الحقوق . الثالث لم يكن ظالماً ولا مظلوماً ، فظاهر كلام الإمام أحمد له تأويله ، لأنه عني بكلامه ما يحتمله على وجه لم يتضمن إبطال حق أحد فجاز كما لو كان مظلوماً ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقاً

ليست هناك تعليقات: