باب فى الحدود باقمة الحد الشرعى



1568 ـ مسألة : (ولا يجب الحد إلا على مكلف عالم بالتحريم) فأما الصبي والمجنون فلا حد عليهما إذا زنيا ، لما روى علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يعقل رواه أبو داود والترمذي وقال : حديث حسن . وفي حديث ماعز أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له حين أقر له : أبك جنون ؟ قال : لا وروي عنه أنه سأل عنه أمجنون هو ؟ قالوا : ليس به بأس . إذا ثبت هذا فينبغي أن يكون عالماً بالتحريم ، وقال عمر وعلي : لا حد إلا على من علمه . فإن ادعى الزاني الجهل بالتحريم وكان يحتمل أن يجهله كحديث عهد بالإسلام أو الناشىء ببادية قبل قوله ، وإلا فلا يقبل لأن تحريم الزنى لا يخفى على ناشىء ببلاد الإسلام .
1569 ـ مسألة : (ولا يقيمه إلا الإمام أو نائبه) لأنه حق لله سبحانه والإمام نائب عن الله عز وجل فاختص باستيفائه كالجزية والخراج .
1570 ـ مسألة : (إلا السيد فإن له إقامته بالجلد خاصة على رقيقه القن) في قول أكثرهم ، وقد روي ذلك عن ابن مسعود وابن عمر ، وقال ابن أبي ليلى : أدركت بقايا الأنصار يجلدون ولائدهم في مجالسهم فيقيمون الحدود إذا زنوا . وروى سعيد أن فاطمة حدت جارية لها . وقال أصحاب الرأي : ليس له ذلك ، لأن الحدود إلى السلطان . ولأن من لا يملك إقامة الحد على الحر لا يملكه على العبد كالصبي . ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم : إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها وقوله : أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم رواه الدارقطني ، ولأنه يملك تأديبه وتزويجه إذا كانت أمته فملك إقامة الحد عليه كالسلطان وفارق الصبي . إذا ثبت هذا فإنه إنما يجوز له إقامته بالجلد خاصة مثل حد الزنى وحد القذف والشرب ، فإن كان قطعاً في السرقة لم يقمه السيد لأنه يحتاج إلى مزيد احتياط ففوض إلى الإمام ، وإنما ملك السيد الجلد لأنه تأديب وهو يملك تأديبه ، وفي تفويضه إليه ستر عليه لئلا يقيمه الإمام فيظهر وتنقص قيمته ، ولا يملك إقامته إلا إذا ثبت ببينة أو إقرار ، فإن ثبت بإقرار فللسيد سماعه وإقامة الحد به ، وإن ثبت بشهادة اعتبر ثبوتها عند الحاكم لأنها تحتاج إلى البحث عن العدالة ولا يقوم بذلك إلا الحاكم ، وقال القاضي يعقوب : إن كان السيد يحسن سماع البينة ويعرف شروط العدالة جاز أن يسمعها ويقيم الحد كما يقيمه بالإقرار ، فأما إقامته عليه بعلمه فعن أحمد فيه روايتان : إحداهما لا يقيمه بعلمه كالإمام ، والثانية يقيمه لأنه قد ثبت عنده فجاز له إقامته كما لو أقر ، ويختص ذلك بالمملوك القن ، فإن كان بعضه حراً لم يملك إقامة الحد عليه ، لأن الحر إنما يقيم الحد عليه الإمام ، وهذا بعضه حر فلا يقيم السيد عليه الحد كما لو كان كله حراً .
1571 ـ مسألة : (وليس له قطعه في السرقة) لأن ذلك حق الله تعالى وهو مفوض إلى نائب الله سبحانه وهو الإمام .
1572 ـ مسألة : (وليس له قتله في الردة) لذلك (ولا جلد مكاتبه) لأنه قد انعقد في حقه سبب الحرية .
1573 ـ مسألة : (ولا أمته المزوجة) لما روي عن ابن عمر أنه قال : إذا كانت الأمة ذات زوج فزنت دفعت إلى السلطان ، فإن لم يكن لها زوج جلدها سيدها نصف ما على المحصن ، ولا يعرف له مخالف ، وقد احتج به أحمد رحمه الله .
1574 ـ مسألة : (وحد الرقيق في الجلد نصف حد الحر) فمتى زنى العبد أو الأمة جلد خمسين جلدة سواء كانا بكرين أو ثيبين لقوله سبحانه : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات 'سورة النساء: الآية 25' ثم قال سبحانه : فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب 'سورة النساء : الآية 25' ولأن عدتها على النصف من عدة الحرة فيكون جلدها على النصف ، ولا فرق بين العبد والأمة بدليل سراية العتق ، فالتنصيص على أحدهما تنصيص على الآخر .
1575 ـ مسألة : (ومن أقر بحد ثم رجع عنه سقط) وذلك أن من شرط إقامة الحد الإقرار والبقاء على الإقرار إلى تمام الحد ، فإن رجع عن إقراره أو هرب كف عنه ولم يتبع ، لما روي أن ماعزاً هرب ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال :هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه قال ابن عبد البر : ثبت من حديث أبي هريرة وجابر ونعيم بن هزال ونصر بن دهر وغيرهم أن ماعزاً لما هرب فقال لهم ردوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فهلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه ففي هذا أوضح الدلائل على أنه يقبل رجوعه ، ولأن رجوعه شبهة ، والحدود تدرأ بالشبهات .

ويضرب في الجلد بسوط لا جديد ولا خلق
1576 ـ فصل : (ويضرب في الجلد بسوط لا جديد ولا خلق) لما روي أن رجلاً اعترف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوط فأتي بسوط مكسور ، فقال : فوق هذا فأتي بسوط جديد لم تكسر غرته فقال : بين هذين رواه مالك عن زيد بن أسلم مرسلاً ، وروي عن أبي هريرة مسنداً ، وقد روى علي رضي الله عنه أنه قال : ضرب بين ضربين ، وسوط بين سوطين فيكون وسطاً لا جديداً فيجرح ، ولا خلقاً فلا يؤلم . وهكذا العذاب يكون وسطاً ، لا شديداً فيقتل ولا ضعيفاً فلا يردع . ولا يرفع باعه كل الرفع ، ولا يحطه فلا يؤلم . قال أحمد : لا يبدي إبطه في شئ من الحدود ، يعني لا يبالغ في رفع يده ، فإن المقصود أدبه لا قتله .
1577 ـ مسألة : (ولا يمد ولا يربط ولا يجرد) قال ابن مسعود : ليس في ديننا مد ولا قيد ولا تجريد . وجلد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينقل عن أحد مد ولا قيد ولا تجريد . ولا تنزع ثيابه بل يكون عليه الثوب والثوبان ، وإن كان عليه فرو أو جبة محشوة نزعت ، لأنه لو ترك عليه ذلك لم يبال بالضرب .
1578 ـ مسألة : (ويتقي وجهه ورأسه وفرجه) لأنها مقاتل وليس القصد قتله وقال علي رضي الله عنه : لكل موضع من الحد حظ إلا الوجه والفرج ، وقال للجلاد : اضرب وأوجع واتق الرأس والوجه . وينبغي أن يفرق الضرب على جميع الجسد ويكثر منه في مواضع اللحم كالإليتين والفخذين ، والمرأة كالرجل في ذلك .
1579 ـ مسألة : (ويضرب الرجل قائماً) لأن قيامه وسيلة إلى إعطاء كل عضو من الجسد حظه من الضرب ، وقال مالك : يضرب جالساً ، لأن الله سبحانه لم يأمر بالقيام ، ولأنه مجلود في حد أشبه المرأة . قلنا : ولم يأمر بالجلوس أيضاً ولم يذكر الكيفية فعلمناها من دليل آخر . وأما المرأة فتضرب جالسة ليكون أستر لها .
1580 ـ مسألة : (وتضرب المرأة جالسة ، وتشد عليها ثيابها ، وتمسك يداها) لئلا تنكشف ، لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : تضرب المرأة جالسة والرجل قائماً لأن المرأة عورة وجلوسها أستر لها ، ويفارق اللعان فإنه لا يؤدي إلى كشف العورة ، وتشد عليها ثيابها لئلا ينكشف شئ عند عورتها عند الضرب . وفي حديث عمران بن حصين قال : فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فشكت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت قال الأوزاعي : يعني فشدت عليها .
1581 ـ مسألة : (ومن كان مريضاً يرجى برؤه أخر حتى يبرأ لما روى) أبو داود بإسناده عن علي رضي الله عنه قال : فجرت جارية لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا علي انطلق فأقم عليها الحد ، فانطلقت فإذا بها دم يسيل ، فقال : دعها حتى ينقطع عنها الدم ، ثم أقم عليها الحد رواه مسلم بنحو من هذا المعنى .
1582 ـ مسألة : (فإن لم يرج برؤه وخشي عليه من السوط جلد بضغث فيه عيدان بعدد ما يجب عليه مرة واحدة) لما روى أبو أمامة بن سهل عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه اشتكى رجل منهم حتى ضنى فعاد جلداً على عظم فدخلت عليه جارية لبعضهم فوقع عليها ، فلما دخل عليه رجال من قومه يعودونه أخبرهم بذلك وقال : استفتوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإني قد وقعت على جارية دخلت علي ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : ما رأينا بأحد من الضر مثل الذي هو به ، لو حملناه إليك لتفسخت عظامه ، ما هو إلا جلد على عظم . فأقر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا له مائة شمراخ فيضربوه بها ضربة واحدة قال ابن المنذر : هذا الحديث في إسناده مقال ، ولأنه لما كانت الصلاة تختلف باختلاف حال المصلي فالحد بذلك أولى .

إذا اجتمعت حدود لله عز وجل فيها قتل
1583 ـ فصل : (وإذا اجتمعت حدود لله عز وجل فيها قتل قتل وسقط سائرها) وهو قول عبد الله بن مسعود ، وقال الشافعي : تستوفى جميعها ، لأن ما وجب مع غير القتل وجب مع القتل كالقصاص في الأطراف ، ولنا قول ابن مسعود رضي الله عنه ولا مخالف له من الصحابة ، ولأن أسباب الحدود إذا كان فيها موجب للقتل سقط ما دونه كالمحارب إذا أخذ المال وقتل فإنه يقتل ولا يقطع ، ولأن هذه الحدود تراد للزجر ، ومن يقتل فلا فائدة في زجره ، ويخالف حق الأدمي فإنه آكد .
1584 ـ مسألة : (ومن زنى مراراً أو سرق مراراً ولم يحد فحد واحد) لأن الحد كفارة لمن يحد فإذا فعل موجبه مراراً أجزأ حد واحد كالأيمان بالله سبحانه فإنه تجزئه كفارة واحدة، وكما لو وطىء في رمضان في يوم مرتين فإنه يجزئه كفارة واحدة كذا ها هنا، قال ابن المنذر : أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم .
1585 ـ مسألة : (وإن اجتمعت حدود من أجناس لا قتل فيها استوفيت كلها) لوجود أسبابها .
1586 ـ مسألة : (ويبدأ بالأخف فالأخف منها) فلو شرب وزنى وسرق بدىء بحد الشرب ثم بحد الزنى ، لأن حد الشرب أخف من حد الزنى فإنه إما أربعون وإما ثمانون ، وحد الزنى مائة ، ثم يقطع في السرقة .
1587 ـ مسألة : (وتدرأ الحدود بالشبهات) لقوله عليه السلام : إدرأوا الحدود بالشبهات قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الحدود تدرأ بالشبهات (فلو زنى بجارية له فيها شرك وإن قل أو لولده لم يحد) لأن ملكه فيها وإن قل شبهة في درء الحد عنه ، وكذلك إذا كانت لابنه لقوله عليه السلام : أنت ومالك لأبيك ولأنه فرج له فيه ملك فلم يحد بوطئه كوطء المكاتبة والمرهونة .
1588 ـ مسألة : (وإن وطىء في نكاح مختلف فيه) كالنكاح بلا ولي ونكاح المتعة والشغار والتحليل وبلا شهود ونكاح الأخت في عدة أختها البائن ونكاح المجوسية (لم يحد) في قول أكثر أهل العلم لأن الاختلاف شبهة والحد يدرأ بالشبهات ، قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الحدود تدرأ بالشبهة .
1589 ـ مسألة : (وإن وطىء مكرهاً لم يحد) لقوله عليه السلام : عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ولأن الحدود تدرأ بالشبهات ، والإكراه شبهة فيمنع الحد كما لو كانت المكرهة امرأة .
1590 ـ مسألة : (ومن سرق من مال له فيه حق أو لولده وإن سفل لم يحد) لأن ذلك شبهة في درء الحد عنه ، لأنه أخذ مالاً له أخذه ، ولما كانت الجارية المشتركة لا يجب الحد بوطئها فكذلك المال المشترك لا يجب الحد بالأخذ منه ، ومال ولده كماله لقوله عليه السلام : أنت ومالك لأبيك (وكذلك إذا أخذ من مال غريمه الذي يعجز عن تخليصه منه بقدر حقه فإنه لا يحد) لأن العلماء اختلفوا في حل ذلك ، واختلاف العلماء في حل الشئ شبهة في درء الحد ، كما لو وطىء في نكاح فاسد مختلف فيه .

من أتى حداً خارج الحرم ثم لجأ إلى الحرم
فصل : ومن أتى حداً خارج الحرم ثم لجأ إلى الحرم أو لجأ إليه من عليه قصاص لم يستوف منه حتى يخرج من الحرم فيستوفى منه ، روى ذلك عن ابن عباس ، وعن الإمام أحمد رواية أخرى أن الجناية إذا كانت فيما دون النفس ، لم تستوف في الحرم ولأن حرمة النفس أعظم ، قال أبو بكر : هذه مسألة وجدتها مفردة لحنبل عن عمه أن الحدود كلها تقام في الحرم إلا القتل ، والعمل على أن كل جان دخل الحرم لم يقم حد جنايته حتى يخرج منه ، وإن هتك حرمة الحرم بالجناية هتكت حرمته بإقامة الحد عليه ، ودليل الأولى قول الله سبحانه : ومن دخله كان آمنا 'سورة آل عمران : الآية 97' قيل المراد بهذا الخبر الأمر ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض ، وإنما حلت لي ساعة من نهار ثم عادت حرمتها ، فلا يسفك فيها دم وروى أبو شريح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس ، فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً ولا يعضد فيها شجرة ، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا : إن الله أذن لرسوله صلى الله عليه وسلم ولم يأذن لكم ، وإنما أذن لي ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، فليبلغ الشاهد منكم الغائب متفق عليه . ووجه الحجة أنه حرم سفك الدم بها على الإطلاق، وتخصيص مكة بهذا يدل على أنه أراد العموم فإنه لو أراد سفك الدم الحرام لم تختص به مكة فلا يكون التخصيص مفيداً ، ومن وجه آخر وهو أنه قال عليه السلام : إنما أحلت لي ساعة من نهار ثم عادت حرمتها ومعلوم أنه إنما أحل له سفك دماء كانت حلالاً في غير الحرم فحرمها الحرم ، ثم أحلت له ساعة ، ثم عادت الحرمة ، ثم أكد هذا بمنعه قياس غيره عليه والاقتداء به بقوله : فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا : إن الله أذن لرسوله صلى الله عليه وسلم ولم يأذن لكم ، وهذا ظاهر . إذا ثبت هذا فإنه (لا يبايع ولا يشارى) ولا يطعم ولا يؤوى ويقال له : اتق الله واخرج إلى الحل ليستوفى منك الحق الذي قبلك ، فإذا خرج استوفى حق الله عز وجل منه ، وإنما كان كذلك لأنه إذا أطعم وأوى تمكن من الإقامة أبداً فيضيع الحق الذي عليه ، وإذا منع ذلك كان وسيلة إلى خروجه فيقام فيه حق الله عز وجل .
1591 ـ مسألة : (وإن فعل ، ذلك في الحرم استوفى منه فيه) لا نعلم في ذلك خلافاً ، وقد روى الأثرم بإسناده عن ابن عباس قال : من أحدث حدثاً في الحرم أقيم عليه ما أحدث فيه من شئ ، وقال الله سبحانه : ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم 'سورة البقرة : الآية 191' فأباح قتلهم عند قتالهم في الحرم ، ولأن أهل الحرم يحتاجون إلى الزجر عند ارتكاب المعاصي حفظاً لأنفسهم وأموالهم وأعراضهم كما يحتاج إليه غيرهم ، فلو لم يشرع الحد في حق من ارتكبه في الحرم لتعطلت حدود الله في حقهم ، وفاتت هذه المصالح التي لا بد منها ولا يجوز الإخلال بها ، ولأن الجاني في الحرم هاتك لحرمته فلا ينتهض الحرم لتحريم دمه وصيانته بمنزلة الجاني في دار الملك لا يعصم لحرمة الملك بخلاف الملتجىء إليها بجناية صدرت منه في غيرها .
1592 ـ مسألة : (وإن أتى حداً في الغزو لم يستوف منه حتى يخرج من دار الحرب) لما روي عن بسر بن أرطاة أنه أتي برجل في الغزاة قد سرق بختية فقال : لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا يقطع في الغزاة لقطعتك ، وفي لفظ لا تقطع الأيدي في الغزاة رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي ، ولأنه إجماع الصحابة ، وروى سعيد في سننه أن عمر كتب إلى الناس : لا تجلدن أمير جيش ولا سرية ولا رجلاً من المسلمين حداً وهو غاز حتى يقطع الدرب قافلاً ، لئلا تحمله حمية الشيطان فيلحق بالكفار . وعن أبي الدرداء مثل ذلك . وعن علقمة قال: كنا في جيش في أرض الروم ومعنا حذيفة بن اليمان وعلينا الوليد بن عقبة فشرب الخمر فأردنا أن نجلده فقال حذيفة : أتجلدون أميركم وقد دنوتم من عدوكم فيطمعوا فيكم. وأتي سعد بأبي محجن يوم القادسية وقد شرب الخمر فأمر به إلى القيد ، فلما التقى الناس قال أبو محجن :
كفى حزناً أن تطرد الخيل بالقنا وأترك مشدوداً على وثاقيا
فقال لابنة حفصة امرأة سعد : أطلقيني ولله علي إن سلمني الله أن أرجع حتى أضع رجلي في القيد ، وإن قتلت استرحتم مني . قال فخلته حين التقى الناس ، وكانت بسعد جراحة فصعدوا به فوق العذيب ينظر إلى الناس ، فوثب أبو محجن على فرس لسعد يقال لها البلقاء ، ثم أخذ رمحاً فجعل لا يحمل على ناحية من العدو إلا هزمهم الله ، وجعل الناس يقولون هذا ملك لما يرونه يصنع ، وجعل سعد يقول : الصبر صبر البلقاء والطعن طعن أبي محجن وأبو محجن في القيد . فلما هزم الله العدو رجع أبو محجن حتى وضع رجله في القيد ، فأخبرت ابنة حفصة سعداً بما كان من أمره ، فقال سعد : لا والله لا أضرب اليوم رجلاً أبلى الله به المسلمين ما أبلاهم ، فخلى سبيله ، فقال أبو محجن : قد كنت أشربها إذ يقام علي الحد وأطهر منها ، فأما إذا بهرجتني فوالله لا أشربها أبداً . وهذا اتفاق لم يظهر خلافه ، فأما إذا خرج من دار الحرب فإنه يقام عليه الحد لعموم الآيات والأخبار ، وإنما أخر لعارض كما يؤخر لمرض أو نحوه ، فإذا زال العارض أقيم ، ولهذا قال عمر : حتى يقطع الدرب قافلاً .

باب حد الزنى

1593 ـ مسألة : الزاني (من أتى الفاحشة في قبل أو دبر من امرأة لا يملكها أو من غلام أو من فعل ذلك به). لا خلاف بين أهل العلم في أن من وطىء امرأة في قبلها لا شبهة له في وطئها أنه زان ، فأما إن وطئها في دبرها فهو أيضاً زان لأنه وطىء امرأة في فرجها ولا ملك له فيها ولا شبهة فكان زانياً كما لو وطىء في القبل ، ولأن الله سبحانه قال : واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم 'سورة النساء : الآية 15' الآية ، ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قد جعل لهن سبيلاً : البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام . والوطء الحرام في الدبر فاحشة لقوله سبحانه في قوم لوط : أتأتون الفاحشة 'سورة النمل : الآية 54' يعني الوطء في أدبار الرجال .
1594 ـ مسألة : من تلوط بغلام فحكمه حكم الزاني في إحدى الروايتين ، وفي الأخرى يقتل بالرجم بكراً كان أو ثيباً ، وهو قول علي وابن عباس وجابر بن زيد ، ووجه ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به رواه أبو داود ، وفي لفظ فاقتلوا الأعلى والأسفل واحتج الإمام أحمد بعلي أنه كان يرى رجمه ، ولأن الله تعالى عذب قوم لوط بالرجم فينبغي أن يعاقب بمثل ذلك ، ودليل الأولى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان ولأنه إيلاج في فرج آدمي أشبه الإيلاج في فرج المرأة ، وإذا ثبت أنه زان فيدخل في عموم قوله سبحانه : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة 'سورة النور : الآية 2' وعموم الأخبار فيه .
1595 ـ مسألة : (ومن فعل ذلك به) يعني أن يكون زانياً إذا وطىء في الدبر رجلاً كان أو امرأة لقوله عليه السلام : إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان ، وأما إذا وطىء الرجل المرأة في دبرها فهو زان أيضاً لأنه وطئها في فرجها فأشبه وطأها في قبلها .
1596 ـ مسألة : (فحده الرجم إن كان محصناً ، أو جلد مائة وتغريب عام إن لم يكن محصناً) فالزاني المحصن يجب عليه الرجم بالأحجار حتى يموت ، لم يخالف في الرجم إلا الخوارج قالوا : الجلد للبكر والثيب لعموم آية الحد ، قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن المرجوم يدام عليه الرجم حتى يموت ، وقد رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديين وماعزاً حتى ماتوا ، وعنه يجلد ثم يرجم ، فعله علي وروي عن ابن عباس وأبي ذر وأبي وهو اختيار أبي بكر عبد العزيز ، ونص على الأولى الأثرم في سننه واختاره لأن جابراً روى أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزاً ولم يجلده وقال : أغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ولم يأمره بجلدها ، ورجم الغامدية ولم يجلدها ، ورجم عمر وعثمان ولم يجلدا ، وهذا كان آخراً فيجب تقديمه في العمل به ، ولأن الحدود إذا اجتمعت وفيها قتل سقط ما سواه ، وقال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يقول في حديث عبادة : إنه أول حد نزل وإن حديث ماعز بعده رجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يجلده ، ولأنه حد يوجب القتل فلم يجب معه جلد كالردة ، ونحو هذا نقل إسماعيل بن سعيد ، ووجه الرواية الأخرى قوله سبحانه : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة 'سورة النور: الآية 2 ' وهذا عام ، ثم جاءت السنة بالرجم فوجب الجمع بينهما فروى عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلاً : البكر بالبكر مائة جلدة وتغريب عام ، والثيب بالثيب الجلد والرجم رواه مسلم وأبو داود وهذا صريح ثابت بيقين لا يترك إلا بيقين مثله ، والأحاديث الباقية ليست صريحة فإنه ذكر الرجم ولم يذكر الجلد فلا يعارض به الصريح ، فعلى هذا يبدأ بالجلد أولاً ثم يرجم .
1597 ـ مسألة : (والمحصن هو الحر البالغ العاقل الذي قد وطىء زوجة مثله في هذه الصفات في قبلها في نكاح صحيح) وذلك أن الرجم لا يجب إلا على المحصن بإجماع أهل العلم ، وللإحصان شروط سبعة : الأول الحرية في قول أكثرهم ، فأما العبد والأمة فلا يجب عليهما الرجم لأن الله سبحانه قال : فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب 'سورة النساء : الآية 25' والرجم لا يتنصف ، وحكم العبد حكم الأمة في ذلك . الشرط الثاني والثالث البلوغ والعقل ، لقوله عليه السلام : الثيب بالثيب جلد مائة والرجم فاعتبر الثيوبة خاصة ، ولو كانت تحصل قبل ذلك لكان يؤدي إيجاب الرجم على الصبي والمجنون . وهذا أولى من القياس . وقال بعض أصحاب الشافعي : الإحصان الوطء في النكاح الصحيح وسائر الشروط معتبرة للرجم لا للإحصان ، ومعناه أنه لو وطىء من هو صبي أو مجنون في نكاح صحيح ثم عقل المجنون وبلغ الصبي وزنيا رجما لأنه وطء محل للزوج الأول فأشبه الوطء في حال الكمال ، ولنا ما سبق . الشرط الرابع أن يوجد الكمال فيهما جميعاً حال الوطء فيطأ الرجل العاقل الحر امرأة عاقلة حرة ، لأنه إذا كان أحدهما ناقصاً لم يكمل الوطء ولا يحصل به الإحصان كما لو كانا غير كاملين . الخامس أن يكون الوطء في القبل فلو وطىء في الدبر أو فيما دون الفرج لم يحصل الإحصان لأنه ليس بمحل الوطء . السادس أن يكون في نكاح ، ولا خلاف بين أهل العلم في أن الزنى ووطء الشبهة لا يصير به أحدهما محصناً ولا نعلم بينهم خلافاً في أن التسري لا يحصل به الإحصان لواحد منهما لكونه ليس بنكاح ولا تثبت فيه أحكامه . السابع أن يكون النكاح صحيحاً فإن كان فاسداً لم يحصل به الإحصان لأن وطء في غير ملك فأشبه وطء الشبهة .
1598 ـ مسألة : (ولا يثبت الزنى إلا بأحد أمرين : إقراره به أربع مرات مصرحاً بذكر حقيقته ، أو شهادة أربعة رجال أحرار عدول يصفون الزنى ويجيئون في مجلس واحد ويتفقون على الشهادة بزنى واحد) وذلك أن الزنى إنما يثبت بأحد شيئين: إقرار أو بينة، فإن ثبت بإقرار اعتبر إقرار أربع مرات . وقال الشافعي وغيره : يحد بإقراره مرة ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ، وفي حديث الجهنية أنه رجمها، وإنما اعترفت مرة. ولأنه حق فأشبه سائر الحقوق . ولنا ما روى أبو هريرة قال : أتى رجل من الأسلميين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فقال : يا رسول الله إني زنيت . فأعرض عنه ، حتى ثنى ذلك أربع مرات ، فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أبك جنون ؟ قال : لا . قال : فهل أحصنت ؟ قال : نعم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ارجموه متفق عليه . ولو وجب الحد بمرة لم يعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لا يجوز ترك حد وجب لله سبحانه . وروى نعيم ابن هزال حديثه وفيه حتى قالها أربع مرات ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنك قد قلتها أربع مرات فبمن ؟ قال : بفلانة رواه أبو داود . وهذا تعليل منه يدل على أن إقرار الأربع هي الموجبة . وقد روى أبو بردة الأسلمي أن أبا بكر الصديق قال له عند النبي صلى الله عليه وسلم : إن أقررت أربعاً رجمك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك ولم ينكره فكان بمنزلة قوله ، لأنه لا يقر على الخطأ، ولأن أبا بكر قد علم هذا من حكم النبي صلى الله عليه وسلم ، ولولا ذلك لما تجاسر على قوله بين يديه . فأما أحاديثهم فإن الاعتراف لفظ المصدر يقع على القليل والكثير ، وحديثنا يفسره ويبين أن الاعتراف الذي ثبت به كان أربعاً .
مسألة : ويعتبر أن يصرح بحقيقة الزنى لتزول الشبهة ، لأن الزنى يعبر به عما لا يوجب الحد ، وقد روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لماعز : لعلك قبلت ، أو غمزت ، أو نظرت . قال : لا. قال : أفنكتها - لا يكنى- قال : نعم . فعند ذلك أمر برجمه رواه البخاري ، وفي رواية عن أبي هريرة قال : أنكتها ؟ قال : نعم . قال : حتى غاب ذلك منك في ذلك منها ؟ قال : نعم . قال : كما يغيب المرود في المكحلة والرشأ في البئر ؟ قال : نعم . قال : هل تدري ما الزنى؟ قال : نعم ، أتيت منها حراماً كما يأتي الرجل من امرأته حلالاً وذكر الحديث ، رواه أبو داود .
مسألة : قد سبق أن الزنى إنما يثبت بأحد شيئين : إقرار أو بينة . وقد مضى الإقرار . وأما البينة (فشهادة أربعة رجال أحرار عدول يصفون الزنى) فيعتبر لشهود الزنى شروط : الأول أن يكونوا أربعة ، وهذا إجماع لقوله سبحانه : لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء 'سورة النور : الآية 13' وقال : فاستشهدوا عليهن أربعة منكم 'سورة النساء: الآية 15' . الشرط الثاني أن يكونوا رجالاً كلهم ، فلا تقبل فيه شهادة النساء لأن في شهادتهن شبهة ، والحدود تدرأ بالشبهات . الثالث الحرية فلا تقبل فيه شهادة عبيدى، لا نعلم في ذلك خلافاً إلا عن أبي ثور فإن شهادتهم عنده مقبولة . ولنا أنه مختلف في قبول شهادتهم في جميع الحقوق ، فيكون ذلك شبهة في درء ما يدرأ بالشبهات . الرابع أن يكونوا عدولاً ، ولا خلاف في اشتراطها ، فإن العدالة مشترطة في سائر الشهادات وها هنا مع مزيد الاحتياط أولى ، ويكونوا مسلمين ولا نعلم في هذا خلافاً ، فلو شهد أربعة من أهل الذمة على ذمي أنه زنى بمسلمة فعليهم الحد ، ولا حد على المشهود عليه . الخامس أن يصفوا الزنى فيقولوا رأينا ذكره في فرجها كالمرود في المكحلة والرشأ في البئر ، لما روى في قصة ماعز لما أقر عند النبي صلى الله عليه وسلم بالزنى قال : حتى غاب ذلك منك في ذلك منها كما يغيب المرود في المكحلة والرشأ في البئر؟ قال : نعم وإذا اعتبر التصريح في الإقرار كان اعتباره في الشهادة أولى ، ولأنهم إذا لم يصفوا الزنى احتمل أن يكون المشهود به لا يوجب الحد فاعتبر كشفه .
1599 ـ مسألة : (ويجيئون في مجلس واحد) وحو شرط سادس في الشهود أن يأتوا الحاكم في مجلس واحد ، وإن جاء بعضهم بعد أن قام الحاكم فعليهم الحد ، وقيل لا يشترط لقوله سبحانه : لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء ولم يذكر المجلس ، ولأن كل شهادة مقبولة إذا اتفقت تقبل وإن افترقت في مجالس كسائر الشهادات . ولنا أن عمر رضي الله عنه شهد عنده أبو بكرة ونافع وشبل بن معبد على المغيرة بالزنى ولم يشهد زياد فحد الثلاثة ، ولو كان المجلس غير مشترط لم يجز أن يحدهم لجواز أن يكملوا برابع في مجلس آخر ، ولأنه لو شهد الثلاثة فحدهم ثم جاء الرابع فشهد لم تقبل شهادته ، ولولا اشتراط المجلس لكملت شهادتهم به ، ويفارق هذا سائر الشهادات . وأما الآية فإنها لم تتعرض للشروط ولهذا لم تذكر العدالة وصفة الزنى .
1600 ـ مسألة : (ويشترط أن يتفقوا على الشهادة بزنى واحد)، فلو شهد اثنان أنه زنى بها في هذا البيت واثنان أنه زنى بها في بيت آخر ، أو شهد كل اثنين عليه بالزنى في بلد غير البلد الذي شهد به صاحباهما واختلفوا في اليوم فالجميع قذفة وعليهم الحد لأنهم لم تكمل شهادة أربعة على فعل واحد فوجب عليهم الحد كما لو انفرد بالشهادة اثنان وحدهما . وحكي عن الإمام أحمد رواية ثانية أنه يجب الحد على المشهود عليه لأن الشهادة قد كملت عليه وهو اختيار أبي بكر ، قال أبو الخطاب : ظاهر هذه الرواية أنه لا يعتبر كمال الشهادة على فعل واحد . قال القاضي قال أبو بكر : لو شهد اثنان أنه زنى بها بيضاء وشهد اثنان أنه زنى بها سوداء فهم قذفة ، وهذا ينقض عليه قوله : ولو شهد اثنان أنه زنى بها في زاوية من هذا البيت وشهد اثنان أنه زنى بها في زاوية أخرى منه ، فإن كانت الزاويتان متباعدتين بحيث لا يمكن أن يوجد الفعل الواحد فيهما فالقول فيهما كالقول فيما إذا اختلفا في البيتين ، وإن كانتا متقاربتين كملت شهادتهم وحد المشهود عليه . وقال الشافعي : لا حد عليه لأن شهادتهم لم تكمل فأشبه ما لو أختلفا في البيتين . ولنا أنه أمكن صدق الشهود عليه بأن يكون ابتداء الفعل في إحدى الزاويتن وتمامه في الأخرى فيجب قبول شهادتهم كما لو اتفقوا على موضع واحد . فإن قيل قد يمكن أن تكون الشهادة ها هنا على فعلين فلم أوجبتم الحد والحدود تدرأ بالشبهات ؟ قلنا : يبطل هذا فيما إذا اتفقوا على موضع واحد فإنه يمكن أن تكوت الشهادة على فعلين بأن يكون قد فعل ذلك في ذلك الموضع مرتين ومع هذا لا يمتنع وجوب الحد فكذا ها هنا .

باب حد القذف

1601 ـ مسألة : (ومن رمى محصناً بالزنى أو شهد به عليه فلم تكمل الشهادة عليه جلد ثمانين جلدة إذا طالب المقذوف) أجمع العلماء على وجوب الحد على من قذف المحصن وذلك لقوله سبحانه : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة 'سورة النور : الآية 4' والمحصن من وجدت فيه خمس شرائط : أن يكون حراً مسلماً عاقلاً بالغاً عفيفاً ، وهذا إجماع وبه يقول جملة العلماء قديماً وحديثاً ، سوى ما روي عن داود أنه أوجب الحد على قاذف العبد . وعن ابن المسيب وابن أبي ليلى قالا : إذا قذف ذمية لها ولد مسلم يحد ، والأول أولى لأن من لم يحد قاذفه إذا لم يكن له ولد لا يحد له ولد كالمجنونة ، وروي عن الإمام أحمد في اشتراط البلوغ روايتان : إحداهما يشترط لأنه أحد شرطي التكليف فأشبه العقل ، ولأن زنى الصبي لا يوجب الحد فلا يجب الحد بالقذف كزنا المجنون . والثانية لا يشترط لأنه حر بالغ عاقل عفيف يعتبر بهذا القول الممكن صدقه أشبه الكبير ، فعلى هذا لا بد أن يكون كبيراً يجامع مثله ، وأدناه أن يكون الغلام ابن عشر سنين والجاريه تسع .
1602 ـ مسألة : وإذا لم تكمل الشهادة عليه بالزنى فعلى القاذف والشهود الحد لقوله سبحانه : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة 'سورة النور : الآية 4' ولأنه إجماع الصحابة فإن عمر جلد أبا بكرة وأصحابه حين لم يكمل الرابع بمحضر من الصحابة فلم ينكروه ، ولأنه رام بالزنى لم يأت بأربعة شهود فيجب عليه الحد كما لو لم يأت بأحد .
1603 ـ مسألة : وإنما يجب الحد على القاذف إذا طالب المقذوف ، لأنه حق له فلا يستوفى قبل طلبه كسائر حقوقه .
1604 ـ مسألة : (والمحصن هو الحر المسلم البالغ العفيف) عن الزنى ، وقد سبق .
1605 ـ مسألة : (ويحد من قذف الملاعنة أو ولدها) نص أحمد رحمه الله على من قذت الملاعنة وهو قول ابن عمر وابن عباس والجمهور ، لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم : قضى في الملاعنة أن لا ترمى ولا يرمى ولدها ، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد رواه أبو داود ، ولأن حصانتها لم تسقط باللعان ولا يثبت الزنى به ولذلك لا يلزمها به حد ، وكذا من قذف ابنها فقال : هو من الذي رميت به ، فأما إن قال : ليس هو ابن فلان وأراد أنه منفي عنه شرعاً فلا حد عليه لأنه صادق .
1606 ـ مسألة : (ومن قذف جماعة بكلمة واحدة فحد واحد إذا طالبوا أو واحد منهم)، وقال ابن المنذر : لكل واحد حد، وعن أحمد مثله لأنه قذف كل واحد منهم فلزمه له حد كامل كما لو قذفهم بكلمات ، ولنا قول الله سبحانه : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة 'سورة النور : الآية 4 ' ولم يفرق بين قذفهم واحدة أو جماعة ، ولأن الذين شهدوا على المغيرة قذفوه بامرأة فلم يحدهم عمر إلا حداً واحداً ، ولأنه قذف واحد فلم يجب إلا حد واحد كما لو قذف واحداً ، ولأن الحد إنما وجب بإدخال المعرة على المقذوف بقذفه وبحد واحد يظهر كذب هذا القاذف وتزول المعرة فوجب أن يكتفى به ، بخلاف ما إذا قذف كل واحد بكلمة فإن ظهور كذبه في قذف واحد لا يزيل المعرة عن الآخر ولا يتحقق كذبه فيه .
1607 ـ مسألة : وإذا طالبوا أو واحد منهم ، وقد سبقت في قذف الواحد ، وإن طلب واحد منهم فله إقامة الحد على قاذفه لأنه مقذوف لم يشهد عليه أربعة فوجب الحد على قاذفه كما لو أقر بالقذف وطلب حقه .
1608 ـ مسألة : (وإن عفا بعضهم لم يسقط حق غيره) كما لو قتله جماعة عمداً وعفي عن بعضهم لا يسقط حق الباقين فكذلك ها هنا

باب حد المسكر

(ومن شرب مسكراً قل أو كثر مختاراً عالماً أن كثيره يسكر جلد الحد أربعين جلدة) في هذه المسألة فصول : الأول أن كل مسكر حرام وهو خمر حكمه حكم عصير العنب في تحريمه ووجوب الحد على شاربه ، روي ذلك عن جماعة من الصحابة ، لما روى ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام وعن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أسكر كثيره فقليله حرام رواهما أبو داود والأثرم وغيرهما ، وقال عمر : نزل تحريم الخمر وهي من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير . والخمر ما خامر العقل ، ولأنه مسكر فأشبه عصير العنب . وقال الإمام أحمد : ليس في الرخصة في المسكر حديث صحيح ، قال ابن المنذر : جاء أهل الكوفة بأحاديث معلولة ، وأما حديث ابن عباس : حرمت الخمرة لعينها ، والمسكر من كل شراب فهو عمدتهم ، وهو موقوف عليه ، مع أنه يحتمل أنه أراد المسكر من كل شراب ، فإنه يروي هو وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : كل مسكر حرام . الفصل الثاني أن الحد يجب على من شرب القليل من المسكر والكثير ، ولا نعلم بينهم خلافاً في ذلك وفي عصير العنب غير المطبوخ ، واختلفوا في سائرها : فذهب إمامنا إلى التسوية بين عصير العنب وكل مسكر ، وقال قوم لا يجلد إلا أن يسكر ، ولنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من شرب الخمر فاجلدوه رواه أبو داود وغيره ، وقد ثبت أن كل مسكر خمر فيتناول الحديث قليلها وكثيرها ، ولأنه شراب فيه شدة مطربة فوجب الحد بقليله كالخمر . الفصل الثالث أن يشربها مختاراً لشربها ، فإن شربها مكرهاً فلا حد عليه ، لقوله عليه السلام : عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه . الفصل الرابع أن الحد إنما يلزم من شربها عالماً أن كثيرها يسكر ، فأما غيره فلا حد عليه ، لأنه غير عالم ولا قاصد لارتكاب المعصية فأشبه من وطىء امرأة يظنها زوجته ، وثبت أن عمر قال : لا حد إلا على من علمه ، وبه قال عامة أهل العلم . الفصل الخامس أن حد شارب الخمر أربعون ، وهو اختيار أبي بكر ، وعنه أن حده ثمانون لإجماع الصحابة ، فإنه روي أن عمر استشار الناس في حد الخمر فقال عبد الرحمن : أجعله كأخف الحدود ، فضرب عمر ثمانين . وروي أن علياً قال في المشورة : إنه إذا سكر هذا ، وإذا هذا افترى ، فحده حد المفتري ، روى ذلك الجوزاني والدارقطني وغيرهما . (ودليل الرواية الأولى أن علياً جلد الوليد بن عقبة أربعين ثم قال : جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين ، وأبو بكر أربعين ، وعمر ثمانين ، وكل سنة وهذا أحب إلي رواه مسلم . وعن أنس قال : أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب الخمر فضربه بالنعال نحواً من أربعين ، ثم أتي به أبو بكر فصنع به مثل ذلك ، ثم أتي به عمر فاستشار الناس في الحد فقال ابن عوف : أقل الحدود ثمانون ، فضرب به عمر ، متفق عليه . وفعل النبي صلى الله عليه وسلم أولى من فعل غيره ، ولا ينعقد الإجماع على شئ قد خالفه فيه أبو بكر وعلي فتحمل زيادة عمر على أنها تعزير ، ويجوز فعلها إذا رآه الإمام .
1609 ـ مسألة : (وسواء كان من عصير العنب أو غيره) روي ذلك عن تسعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : كل مسكر حرام ، وهو خمر حكمه حكم عصير العنب في تحريمه ووجوب الحد على شاربه ، قال عمر رضي الله عنه : نزل تحريم الخمر وهي من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير ، والخمر ما خامر العقل ، ولأنه مسكر فأشبه عصير العنب .
1610 ـ مسألة : (ومن أتى من المحرمات ما لا حد فيه لم يزد على عشر جلدات)، وذلك أن الجنايات التي لا حد فيها كوطء الشريك جاريته المشتركة أو أمته المزوجة أو امرأته في دبرها أو حيضها أو وطء أجنبية دون الفرج أو سرق دون النصاب أو من غير حرز أو شتم إنساناً بما ليس بقذف ونحوه فإن ذلك يوجب التعزير ، واختلف عن أحمد في مقداره : فروي عنه أنه لا يزاد على عشر جلدات نص عليه في مواضع ، لما روى أبو بردة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله ، متفق عليه ، وروى عن الإمام أحمد ما يدل على أنه لا يبلغ بكل جناية حداً مشروعاً في جنس تلك الجناية وتحمله كلام الخرقي لأنه قال : لا يبلغ بالتعزير الحد ، فعلى هذا ما كان شبه الوطء كوطء الجارية المشتركة وجارية ابنه أو أشباه هذا يجلد مائة إلا سوطاً لينقص عن حد الزنى ، وما كان شبه غير الوطء ، أدنى الحدود ، ووجه هذا حديث النعمان بن بشير الأنصاري في الذي وطئ جارية امرأته بإذنها أنه يجلد مائة ، وهذا تعزير لأنه في حق المحصن وحده الرجم ، وعن سعيد بن المسيب ، في أمة بين رجلين وطئها أحدهما : يجلد الحد إلا سوطاً واحداً رواه الأثرم واحتج به أحمد ، قال القاضي : هذا عندي من نص أحمد لا يقتضي اختلافاً في التعزير ، بل المذهب أنه لا يزاد على عشر جلدات اتباعاً للأثر إلا في وطء جارية امرأته لحديث النعمان ، وفي الجارية المشتركة لحديث عمر ، وما عدا هذا يبقى على العموم لحديث أبي بردة الصحيح ، قال شيخنا : وهذا قول حسن .
1611 ـ مسألة : (إلا أن يطأ جارية امرأته بإذنها فإنه يجلد مائة) لحديث النعمان ، وقد سبق .

باب حد السرقة

(ومن سرق ربع دينار من العين أو ثلاثة دراهم من الورق أو ما يساوي أحدهما من سائر المال وأخرجه من الحرز قطعت يده اليمنى من مفصل الكف وحسمت)، ولا يجب القطع إلا بشروط أربعة : أحدها السرقة ، ومعناها أخذ المال على وجه الخفية والاستتار ، ومنه استراق السمع ، فإن اختطف أو اختلس لم يكن سارقاً ولا قطع عليه ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :ليس على الخائن ولا على المختلس قطع ، وفي حديث عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس على المنتهب قطع رواهما أبو داود وقال : لم يسمعهما ابن جريج من أبي الزبير الشرط الثاني أن يكون المسروق نصاباً ، وقيل يقطع في القليل والكثير لظاهر الآية ، ولما روى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لعن الله السارق ، يسرق الحبل فتقطع يده ، ويسرق البيضة فتقطع يده متفق عليه ، ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم : لا تقطع إلا في ربع دينار فصاعداً متفق عليه ، ويحتمل أن الحبل يساوي ذلك ، وكذلك بيضة السلاح ، وروى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم متفق عليه ، قال ابن عبد البر : هذا أصح حديث يروى في هذا الباب ، لا يختلف أهل العلم في ذلك ، وفي هذا الحديث دليل على أن العروض تقوم بالدراهم لأن ثمن المجن قوم بها ، ولأن ما كان الذهب فيه أصلاً كان الورق فيه أصلاً كنصب الزكاة والديات وقيم المتلفات . الشرط الثالث كون المسروق مالاً ، فإن سرق ما ليس بمال كالحر فلا قطع فيه صغيراً كان أو كبيراً ، وقيل يقطع بسرقة الصغير لعموم الآية ، ولأنه غير مميز أشبه العمد ، وذكره أبو الخطاب رواية عن الإمام أحمد ، ولنا أنه ليس بمال فلا يقطع بسرقته كالكبير النائم. الشرط الرابع أن يخرجه من الحرز، كل أهل العلم على اشتراطه، ولا نعلم عن أحد خلافهم إلا الحسن والنخعي ، وروي عن عائشة فيمن جمع المتاع في البيت : عليه القطع ، وعن الحسن مثل قول سائر أهل العلم ، قال ابن المنذر : وليس فيه خبر ثابت فهو كالإجماع منهم ، وحكي عن داود أنه لا يعتبر الحرز لأن الآية لا تفصيل فيها ، ولنا إجماع أهل العلم السابق على قوله ، وما روي عن عمرو بن شعيب ، أن رجلاً من مزينة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الثمار فقال : من أخذ بفيه ولم يتخذ خبنة فليس عليه شئ ، ومن احتمل فعليه ثمنه مرتين وضرب ونكال ، وما أخذ من أجرانه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وغيرهم، وهذا الخبر يخص الآية كما خصصناها في اعتبار النصاب . وإذا ثبت هذا في الحرز وما عد حرزاً في العرف ، فإنه لما لم يثبت اعتباره في الشرع من غير تنصيص على بيانه علم أنه رد ذلك إلى العرف لأنه لا طريق إلى معرفته إلا من جهته ، إذا ثبت هذا فإن حرز الذهب والفضة والجواهر في الصناديق تحت الأغلاق والأقفال الوثيقة ، وحرز الثياب وما خف من المتاع كالصفر والنحاس والرصاص في الدكاكين والبيوت المقفلة في العمران ، فإن كان لابساً ثوب أو متوسداً له نائماً عليه أو مستيقظاً في أي موضع فهو محرز بدليل حديث رداء صفوان إذ سرق رداؤه وهو متوسده في المسجد فقطع النبي صلى الله عليه وسلم سارقه (رواه النسائي الحديث 4896 )، فإن تدحرج عن الثوب زال الحرز . وحرز البقل وقدور الباقلاء بالشرائح من الخشب والقصب إذا كان في السوق حارس . وحرز الخشب والحطب بالحظائر وتعبية بعضه على بعضه ويقيد فوقه بحيث يعسر أخذ شئ منه على ما جرت به العادة ، وما في الفنادق مغلق عليه فهو محرز وإن لم يقيد .
1612 ـ مسألة : (فإذا وجدت هذه الشروط وجب قطع يده اليمنى من مفصل الكف وهو الكوع وحسمت ، ولا خلاف بين أهل العلم في أن السارق أول ما يقطع منه يده اليمنى ، روي ذلك عن أبي بكر وعمر ولا مخالف لهما في الصحابة ، ولأن البطش بها أقوى فكان البداية بها أردع ، ويستحب أن تحسم اليد والرجل بعد القطع ، ومعناه أنه يغلى لها الزيت فإذا قطعت غمست فيه لتنسد أفواه العروق لئلا ينزف الدم ، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بسارق سرق شملة فقال : اقطعوه واحسموه وهو حديث في إسناده مقال ، قاله ابن المنذر .
1613 ـ مسألة : (فإن عاد ثانياً قطعت رجله اليسرى من مفصل الكعب وحسمت وبذلك قالت الجماعة إلا عطاء وحكي عنه أنه تقطع يده اليسرى لقوله سبحانه : فاقطعوا أيديهما 'سورة المائدة : الآية 38' وحكي ذلك عن ربيعة وداود ، ومذهب جماعة فقهاء الأمصار من الصحابة والتابعين على ما قلناه ، وقد روي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في السارق : إن سرق فاقطعوا يده ، ثم إن سرق فاقطعوا رجله ولأنه في المحاربة تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى كذا ها هنا ، وإنما قطعت رجله اليسرى لأنه أرفق به ، ولأنه يمكن المشي على خشبة ، ولو قطعت رجله اليمنى ويده اليمنى لم يمكن ذلك .
1614 ـ مسألة : (فإن عاد حبس ولا يقطع غير يد ورجل) وهو اختيار أبي بكر وروي عن علي والحسن والشعبي ، وعن أحمد أنه تقطع يده اليسرى في الثالثة وفي الرابعة رجله اليمنى وفي الخامسة يعزر ويحبس وهو قول الشافعي لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في السارق : إن سرق فاقطعوا يده ، ثم إن سرق فاقطعوا رجله ، ثم إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله ولأن اليسار تقطع قوداً فتقطع في السرقة كاليمنى ، ولأن في قطع اليدين تعطل منفعة الجنس فلم يشرع في حد كالقتل ، ألا ترى أنا عدلنا في الثانية إلى قطع الرجل لهذا المعنى ، ولأن قطع اليدين بمنزلة الإهلاك فإنه لا يمكنه أن يتوضأ ولا أن يستنجي ولا أن يحترز من النجاسة ولا يزيلها عنه ولا يأكل ولا يبطش ، ولذلك أوجب الله سبحانه في يديه دية جميعه ، وقال علي رضي الله عنه : إني لأستحي من الله أن لا أدع له يداً يبطش بها ولا رجلاً يمشي عليها .
1615 ـ مسألة : (ولا تثبت السرقة إلا بشهادة عدلين ، أو اعتراف مرتين)، وذلك أن القطع إنما يثبت بأحد أمرين : بينة أواعتراف، فأما البينة فيشترط فيها أن يكون رجلين مسلمين حرين عدلين ، يصفا السرقة والحرز والجنس والنصاب وقدره ليزول الاختلاف فيه فيقولان : نشهد أن هذا سرق كذا قيمته كذا من حرز ، ويصفانه فيقولان : من حرز فلان ابن فلان بحيث يتميز عن غيره ، فإذا اجتمعت الشروط وجب الحد . الثاني الاعتراف مرتين ، لما روى أبو داود بإسناده عن أمية المخزومي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بلص قد اعترف فقال له :وما أخالك سرقت قال : بلى ، فأعاد عليه مرتين أو ثلاثاً فأمر به فقطع . ولو وجب القطع بأول مرة ما أخره . ويشترط أن يذكر في اعترافه شروط السرقة من النصاب والحرز وإخراجه منه .
1616 ـ مسألة : (ولا يقطع حتى يطالب المسروق منه بماله) لأن المال يباح بالبذل والإباحة فيحتمل أن يكون ماله أباحه إياه أو وقفه على المسلمين أو على طائفة السارق منهم ، أو أذن له في دخول حرزه ، فاعتبرت المطالبة لتزول هذه الشبهة .
1617 ـ مسألة : (وإن وهبها للسارق أو باعه إياها قبل ذلك سقط القطع ، وإن كان بعده لم يسقط) وذلك أنه إذا باعه العين أو وهبها له قبل رفعه إلى الحاكم سقط القطع عنه ، لأن المطالبة شرط لما سبق ، ولم يبق مطالب ، وإن كان البيع أو الهبة بعد أن رفعه إلى الحاكم لم يسقط القطع ، لما روى الزهري عن صفوان عن أبيه أنه نام في المسجد فتوسد رداءه فأخذ من تحت رأسه ، فجاء بسارقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم : أن يقطع ، فقال صفوان : يا رسول الله لم أرد هذا ، ردائي عليه صدقة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فهلا قبل أن تأتي به رواه ابن ماجه ، والجوزجاني ، وفي لفظ قال : فأتيته فقلت أتقطعه من أجل ثلاثين درهماً ؟ أنا أبيعه وأنسئه ثمنها . قال : فهلا كان قبل أن تأتيني به رواه الأثرم وأبو داود، فهذا يدل على أنه لو وجد قبل رفعه إليه لدرأ القطع ، وبعده لا يسقط .
1618 ـ مسألة : (وإن نقصت عن النصاب بعد الإخراج لم يسقط القطع ، وإن كان قبله لم يجب) لقول الله سبحانه : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما 'سورة المائدة : الآية 38' ، ولأنه نقصان حدث في العين فلم يمنع القطع كما لو نقص باستعماله ، وسواء نقصت قيمتها قبل الحكم أو بعده ، لأن سبب الوجوب السرقة فيعتبر النصاب حينئذ ، فأما إن نقص قبل الإخراج لم يجب القطع لعدم الشرط قبل تمام السبب ، وسواء نقصت بفعله أو بغير فعله ، وإن وجدت ناقصة ولم يدر هل كانت ناقصة حين السرقة أو حدث النقص بعدها لم يجب القطع للشك في شرط الوجوب ، ولأن الأصل عدمه .
1619 ـ مسألة : (وإذا قطع فعليه رد المسروق إن كان باقياً أو قيمته إن كان تالفاً) لا يختلف أهل العلم في وجوب رد العين على مالكها إن كانت باقية ، فأما إن كانت تالفة فعلى السارق رد قيمتها أو مثلها إن كانت مثلية قطع أو لم يقطع موسراً كان أو معسراً لأنها عين يجب ضمانها بالرد إن كانت باقية ويجب غرمها إن كانت تالفة كما لو لم يقطع ، ولأن القطع والغرم حقان يجبان لمستحقين فجاز اجتماعهما كالجزاء والقيمة في الصيد الحرمي المملوك ، والحديث في ذلك يرويه سعد بن إبراهيم ، وقال ابن المنذر : مجهول ، ويحتمل أنه أراد بقوله إذا أقيم الحد على السارق فلا غرم عليه ، يعني ليس عليه غرامة أجرة القاطع .

باب حد المحاربين

(وهم الذين يعرضون للناس في الصحراء جهرة ليأخذوا أموالهم ، فمن قتل منهم وأخذ المال قتل) وإن عفا صاحب المال (وصلب حتى يشتهر ودفع إلى أهله ، ومن قتل ولم يأخذ المال قتل ولم يصلب ، وإن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى في مقام واحد وحسمتا) وخلي سبيله ، روي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما . وقيل يخير الإمام فيهم بين القتل والقطع والنفي ، لقوله سبحانه : إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض 'سورة المائدة : الآية 33' و أو للتخيير . وقيل : إن قتل قتل ، وإن أخذ المال قطع ، وإن قتل وأخذ المال فالإمام مخير بين قتله وصلبه وبين قطعه وقتله وبين أن يجمع له ذلك كله لأنه وجد منه ما يوجب القتل والقطع فأشبه ما لو زنى وسرق، وعنه إذا قتل وأخذ المال قطع ثم قتل ثم صلب. قال مالك : إذا قطع الطريق فإن رآه الإمام جلداً إذا رأى قتله ، وإن كان جلداً لا رأى له قطعه . ولنا على أنه لا يقتل إذا لم يقتل قول النبي صلى الله عليه وسلم : لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان ، أو زنى بعد إحصان ، أو قتل نفس بغير حق . وأما أو فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما مثل قولنا ، فإما أن يكون توقيفاً أو لغة ، وأيهما كان فهو حجة يدل على أنه بدأ بالأغلظ فالأغلظ ، وعرف القرآن فيما أريد به التخيير البداية بالأخف ككفارة اليمين ، وما أريد به الترتيب بدىء فيه بالأغلظ فالأغلظ ككفارة القتل ، يدل عليه أن العقوبات تختلف باختلاف الأجرام ولذلك اختلف حكم الزاني والقاذف والسارق ، وقد سوي بينهم مع اختلاف جناياتهم ، وبهذا نرد على مالك ، فإنه إنما اعتبر الجلد والرأي ، وهو على خلاف الأصول التي ذكرناها . وقول أبي حنيفة لا يصح لأن القطع لو وجب بحق الله سبحانه لم يخير الإمام فيه كقطع السارق وكما لو انفرد بأخذ المال ، ولأن الحدود لله سبحانه إذا كان فيها قتل سقط ما دونه كما لو سرق وزنى وهو محصن ، وذكر العاقولي في معلقه أن أبا داود روى عن ابن عباس قال : وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بردة الأسلمي فجاء ناس يريدون الإسلام فقطع عليهم أصحابه ، فنزل جبريل عليه السلام بالحد فيهم أن من قتل وأخذ المال قتل ثم صلب ، ومن قتل ولم يأخذ المال قتل ، ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف وهو نص .
1620 ـ مسألة : (ولا يقطع إلا من أخذ ما يقطع به السارق) لقوله صلى الله عليه وسلم : لا قطع إلا في ربع دينار ولم يفصل .
1621 ـ مسألة : (ومن أخاف السبيل ولم يقتل ولا أخذ مالاً نفي من الأرض) لقوله سبحانه : أو ينفوا من الأرض 'سورة المائدة: الآية 33' قال ابن عباس : النفي في هذه الحالة يعني في حق من لم يقتل ولم يأخذ مالاً ولكنه أخاف السبيل ، ونفيه تشريده عن الأمصار والبلدان ، فلا يترك يأوي إلى بلد لظاهر الآية ، فإن النفي الطرد والإبعاد ، وأما الحبس فهو إمساك ، وهما متنافيان .
1622 ـ مسألة : (ومن تاب قبل القدرة عليه سقطت عنه حدود الله وأخذ بحقوق الآدميين إلا أن يعفى له عنها) لا نعلم في هذا خلافاً ، ودليله قول الله سبحانه : إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم ' سورة المائدة : الآية 34' يسقط عنهم تحتم القتل والصلب والقطع والنفي ، ويبقى عليهم القصاص في النفس والجراح وغرامة المال والدية لما لا قصاص فيه ، ولأنه إذا ، قبل القدرة عليه فالظاهر أنها توبة إخلاص ، وأما التوبة بعد القدرة عليه فالظاهر أنها تقيه من إقامة الحد عليه فلا تفيده ، وأما حقوق الآدميين التي ذكرناها ، فيؤخذ بها ولا تسقط بالتوبة كما لو أخذ شيئاً أو أتلف شيئاً وهو غير محارب ثم تاب ، فإنه يلزم به إلا أن يعفو صاحبه .

من عرض له من يريد نفسه أو ماله أو حريمه
1623 ـ مسألة : (ومن عرض له من يريد نفسه أو ماله أو حريمه أو حمل عليه سلاحاً أو دخل منزله بغير إذنه فله دفعه بأسهل ما يعلم أنه يندفع به ، فإن لم يندفع إلا بقتله فله قتله ولا ضمان عليه ، وإن قتل الدافع فهو شهيد) وذلك أن من عرض لإنسان يريد نفسه أو ماله أو حريمه فإنه يجوز له دفعه عن نفسه وماله وحريمه بأسهل ما يندفع به ، كما يجوز ذلك في أهل البغي ، فإن كان يندفع بالقول لم يجز ضربه لأن المقصود دفعه وليس المقصود ضربه ، وإن كان يندفع بالضرب لم يجز قتله لأن المقصود دفعه لا قتله ، فإن لم يمكن دفعه إلا بالقتل أو خاف أن يبادره بالقتل إن لم يقتله فله ضربه بما يقتله به أو يقطع طرفه ، فإن قتله أو أتلف منه عضواً كان هدراً لأنه قتله لدفع شره فلم يضمن كالباغي ، ولأنه اضطره إلى قتله فصار كأنه القاتل لنفسه ، وإن قتل الدافع فهو شهيد ، لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من أريد ماله بغير حق فقاتل فقتل فهو شهيد رواه الخلال بإسناده ، ولأنه قتل لدفع ظالم فكان شهيداً كالعادل بقتله الباغي ، سواء كان القاصد ذكراً أو أنثى ، كبيراً أو صغيراً ، وهكذا الحكم فيمن حمل عليه السلاح أو دخل منزله بغير إذنه بالسلاح فأمره بالخروج فلم يفعل فله أن يخرجه بأسهل ما يمكن على ما سبق فيمن عرض له من يريد نفسه أو ماله .
1624 ـ مسألة : (ومن صالت عليه بهيمة فله دفعها بمثل ذلك ولا ضمان عليه) وذلك أنه من صالت عليه بهيمة فلم يقدر على دفعها إلا بقتلها جاز له قتلها إجماعاً ، وليس عليه ضمانها إذا كانت لغيره . وقال أبو حنيفة : عليه ضمانها لأنه أتلف مال غيره لإحياء نفسه فكان عليه ضمانه كالمضطر إلى طعام غيره . ولنا أنه قتلها بالدفع الجائز فلم يضمنها كالعبد ، ولأنه حيوان جاز إتلافه لجنايته فلم يضمنه كالآدمي ، ويفارق المضطر فإن الطعام لم يلجئه إلى إتلافه ، ولهذا لو قتل المحرم الصيد للمجاعة ضمنه ولو قتله لصياله لم يضمنه .
1625 ـ مسألة : (ومن اطلع في دار إنسان أو بيته من خصاص الباب أو نحوه فحذفه بحصاة ففقأ عينه فلا ضمان عليه) وقال أبو حنيفة : يضمنه ، لأنه لو دخل منزله ونظر فيه أو نال من امرأته ما دون الفرج لم يجز قلع عينه ، فمجرد النظر أولى . ولنا ما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح وعن سهل بن سعد أن رجلاً اطلع في حجر من باب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحك رأسه بمدراة في يده ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو علمت أنك تنظر في لطمست -أو لطعنت- بها في عينك متفق عليهما . وهذا أولى مما ذكروه .
1626 ـ مسألة : (فإن عض إنسان يده فانتزعها فسقطت ثناياه فلا ضمان فيها) لما روي عن عمران بن حصين أن رجلاً عض يد رجل ، فنزع يده من فيه فوقعت ثناياه ، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يعض أحدكم يد أخيه كما يعض الفحل ، لا دية لك متفق عليه .

ليست هناك تعليقات: