باب فى احكام الرباء

وهو في اللغة الزيادة ، قال الله سبحانه وتعالى : فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وقال سبحانه وتعالى : أن تكون أمة هي أربى من أمة أي أكثر عدداً ، ويقال : أربى فلان على فلان إذا زاد عليه . وهو في الشرع الزيادة في أشياء مخصوصة ، وهو محرم بقوله سبحانه : وحرم الربا ، وقال عليه السلام : اجتنبوا السبع الموبقات : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ، وقال عليه الصلاة والسلام : لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه متفق عليهما . وأجمعت الأمة على أن الربا محرم . والأعيان المنصوصة على الربا فيها ستة وهي (في حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الذهب بالذهب مثلاً بمثل ، والفضة بالفضة مثلاً بمثل ، والتمر بالتمر مثلاً بمثل ، والبر بالبر مثلاً بمثل ، والشعير بالشعير مثلاً بمثل ، والملح بالملح مثلاً بمثل . فمن زاد أو ازداد فقد أربى ، بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يداً بيد وبيعوا الشعير بالتمر كيف شئتم يداً بيد وبيعواً البر بالشعير كيف شئتم يداً بيد رواه مسلم . 709 ـ مسألة : (ولا يجوز بيع مطعوم - مكيل أو موزون - بجنسه إلا مثلاً بمثل) لأن النبي صلى الله عليه وسلم : نهى عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل رواه مسلم من حديث معمر بن عبد الله . والمماثلة المعتبرة في الشرع هي المماثلة في الكيل والوزن ، فدل على أنه لا يحرم إلا في مطعوم يكال أو يوزن ، ولا يحرم فيما لا يطعم كالأشنان والحديد ، ولا فيما لا يكال كالبطيخ والرمان ، وهي إحدى الروايات في علة الربا عن أحمد رحمه الله ، فعلى هذه تكون علة الربا في الذهب والفضة الثمنية لأنها وصف شرف فيصلح العليل بها كالطعام ، والرواية الأخرى أن العلة في الذهب والفضة الوزن والجنس ، وفي غيرهما الكيل والجنس ، لما روي عن عمار أنه قال : العبد خير من العبدين والثوب خير من الثوبين ، فما كان يداً بيد فلا بأس ، إنما الربا في النسأ إلا ما كيل أو وزن ، وروى الإمام أحمد في المسند عن أبي حبان عن أبيه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تبيعوا الدينار بالدينارين ولا الدرهم بالدرهمين ولا الصاع بالصاعين ، فإني أخاف عليكم الربا وهو الربا . فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله أرأيت الرجل يبيع الفرس بالأفراس والنجيبة بالإبل ، فقال : لا بأس إن كان يداً بيد . ولأن قضية البيع المساواة والمؤثر في تحققها الكيل والوزن والجنس ، فإن الكيل يسوي بينهما صورة ، والجنس يسوي بينهما معنى ، فكانا علة . ووجدنا الزيادة في الكيل محرمة دون الزيادة في الطعم بدليل بيع الثقيلة بالخفيفة فإنه جائز إذا تساويا في الكيل ، ولو كانت العلة في الطعم لجرى الربا في الماء لكونه مطعوماً قال الله تعالى : ومن لم يطعمه فإنه مني . والرواية الثالثة أن العلة فيما عدا الأثمان كونه مأكول الجنس فيختص بالمطعومات ويخرج منه ما عداها . والعلة في الذهب والفضة الثمنية وهو مذهب الشافعي ، فيختص الذهب والفضة ، ودليله حديث معمر وقد سبق ، ولأن الطعم وصف شرف إذ به قوام الأبدان، والثمنية وصف شرف إذ بها قوام الأموال، فيقتضي التعليل بهما . ولأنه لو كانت العلة في الأثمان الوزن لما جاز إسلامهما في الموزونات ، لأن أحد وصفي علة ربا الفضل يكفي في تحريم النسأ. إذا ثبت هذا فعلى الرواية الأولى متى اجتمع الطعم والجنس والكيل والوزن حرم الربا رواية واحدة ، وما وجد فيه أحد الوصفين الطعم والكيل أو الوزن واتحد جنسه ففيه روايتان واختلاف بين أهل العلم كالأشنان والحديد والرصاص والبطيخ والرمان ، ولا فرق في المأكولات بين ما يؤكل قوتاً أو تفكهاً كالفواكه أو تداوياً كالإهليلج ، فإن الكل واحد في باب الربا . والله أعلم . 710 ـ مسألة : (ولا يجوز بيع مكيل من ذلك بجنسه وزناً ، ولا موزون كيلاً). قد سبق أن قضية البيع المساواة، والمساواة المرعية في الشرع هي المساواة في المكيل كيلاً وفي الموزون وزناً ، فإذا تحققت المساواة في ذلك لم يضر اختلافها فيما سواه ، وإن لم توجد المساواة في ذلك لم يصح البيع لقول النبي صلى الله عليه وسلم الذهب بالذهب وزناً بوزن ، والبر بالبر كيلاً بكيلا رواه الأثرم في حديث عبادة . ولأبي داود ولفظه : البر بالبر مداً بمد والشعير بالشعير مداً بمد فمن زاد أو ازداد فقد أربى . فأمر بالمساواة في الموزونات المذكورة في الوزن وأمر بالمساواة في المكيلات في الكيل ، ولأن حقيقة الفضل مبطلة للبيع والمساواة مشترطة فيجب العلم بوجود الشرط فلا يجوز بيع المكيل بالمكيل وزناً لأن تماثلهما في الكيل شرط ، فمتى باع رطلاً خفيفاً منه برطل ثقيل حصل في كفة الخفيف أكثر مما في كفة الثقيل فربما حصل في رطل حنطة ثقيلة ثلثا مد ويحصل في رطل الخفيفة مد فيفوت التساوي المشترط ، ولا يجوز بيع الموزون بالموزون كيلاً لإفضائه إلى التفاضل على مثل ما ذكرنا في الكيل . 711 ـ مسألة : (وإن اختلف الجنسان جاز بيعه كيف شاء يداً بيد) يعني يجوز بيعه كيلاً ووزناً وجزافاً ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الأعيان الستة : فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يداً بيد رواه أبو داود . 712 ـ مسألة : (ولم يجز النسأ فيه) لذلك . وفي لفظ أبي داود : لا بأس ببيع الذهب بالفضة والفضة أكثرهما يداً بيد ، وأما نسيئة فلا . ولا بأس ببيع البر بالشعير والشعير أكثرهما يداً بيد ، وأما نسيئة فلا . فما اتحدت عليه ربا الفضل فيهما كالمكيل بالمكيل والموزون بالموزون ، عند من يعلل بهما ، والمطعوم عند من يعلل به ، فهذا لا خلاف بين أهل العلم في تحريم النسأ فيهما ، وما اختلفت علتاهما كالمكيل بالموزون ففيه روايتان عن أحمد إحداهما لا يجوز النسأ فيهما بالقياس على ما اتفقت علتهما ، والرواية الثانية يجوز لأنه لم يجتمع فيهما أحد وصفي علة الربا أشبها الثياب بالحيوان ، ويخرج من القسمين إذا كان أحد العوضين ثمناً والآخر من غير ثمن فإنه يجوز النسأ فيهما بغير خلاف ، لأن الشرع رخص في السلم ، والأصل في رأس المال السلم النقدان ، فلو قلنا لا يجوز انسد باب السلم في الموزونات على ما عليه الأصل الغالب فأثرت رخصة الشرع في التجويز . 713 ـ مسألة : (ولا يجوز النسأ فيه ولا التفرق قبل القبض) لقوله صلى الله عليه وسلم : يداً بيد فيحتمل أنه أراد به القبض وعبر باليد عن القبض ، ويحتمل أنه أراد به الحلول وترك النسيئة ، لأننا لو اشترطنا القبض في جميع ما يحرم فيه النسأ لم يبق فيه ربا نسيئة لكون العقد يفسد بترك التقابض ، والإجماع منعقد على أن من أنواع الربا ربا النسيئة ، قال أبو الخطاب : ما اتفقت علتهما كالحنطة بالشعير والذهب بالفضة لم يجز التفرق فيهما قبل القبض وإن فعلا بطل العقد ، وما اختلفت علتهما كالمكيل بالموزون جاز التفرق فيهما قبل القبض ، رواية واحدة ، قال شيخنا : وهذا ينبغي أن يكون في غير المطعوم ، فأما المطعوم فإن فيه رواية لأن الربا يجري فيه ، فعلى هذه لا يجوز التفرق فيه قبل القبض أيضاً ، وعلى الرواية الأخرى يجوز . 714 ـ مسألة : (إلا في الثمن بالمثمن) يعني فإنه يجوز التفرق فيه قبل القبض والنسأ لما سبق . 715 ـ مسألة : (وكل شيئين جمعهما اسم خاص) من أصل الخلقة (فهما جنس واحد) يشمل أنواعاً كالذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح ، فإذا اتفق شيئان في الاسم الخاص من أصل الخلقة فهما في واحد كأنواع التمر والبر ، وإن اختلفا في الاسم من أصل الخلقة فهما جنسان كالستة المذكورة في الخبر لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الزيادة فيها إذا بيع منها شئ بما يوافقه في الاسم ، وأباحها إذا بيع بما يخالفه في الاسم ، فدل على أن ما اتفقا في الاسم جنس ، وما اختلفا فيه جنسان . 716 ـ مسألة : (إلا أن يكونا من أصلين مختلفين ، فإن فروع الأجناس أجناس) تعتبر بأصولها ، فما أصله جنس واحد فهو جنس واحد وإن اختلفت أسماؤه ، وما أصله أجناس ، فهو أجناس (وإن اتفقت أسماؤه) فدقيق الحنطة والشعير جنسان وكذا خل العنب وخل التمر جنسان وكذلك اللبن ، وعنه أنهما جنس واحد ، والأول أصح لأنهما فرعا أصلين مختلفين فكانا جنسين (كالأدقة) . 717 ـ مسألة : (ولا يجوز بيع رطب منها بيابس من جنسه) لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع التمر بالتمر متفق عليه، وعن سعد بن أبي وقاص : أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عن بيع الرطب بالتمر فقال : أينقص الرطب إذا يبس؟ فقالوا نعم ، فنهى عن ذلك أخرجه أبو داود ، فنهى وعلل بأنه ينقص عن يابسه ، فدل على أن رطبه يحرم بيعه بيابسه . 718 ـ مسألة : (ولا يجوز بيع خالصه بمشوبه) كحنطة فيها شعير أو زوان بخالصة أو غير خالصة ، أو لبن مشوب بخالص أو مشوب ، أو عسل في شمعه بمثله إلا أن يكون الخلط يسيراً لا وقبع له كيسير التراب والزوان ودقيق التراب الذي لا يظهر في الكيل لأنه لا يخل بالتماثل ولا يمكن التحرز منه . 719 ـ مسألة : (ولا يجوز بيع نيئه بمطبوخه) لأن النار تذهب برطوبته وتعقد أجزاءه فيمتنع تساويهما . 720 ـ مسألة : (ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المزابنة ، وهو اشتراء التمر بالتمر في رؤس النخل) فروى جابر قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة متفق عليه ، والمحاقلة بيع الحب في سنبله بجنسه، وروى البخاري عن أنس قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمخاضرة وهو بيع الزرع الأخضر والثمرة قبل بدو صلاحها من غير شرط القطع ، وقيل المحاقلة استكراء الأرض بالحنطة . 721 ـ مسألة : (ورخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيع العرايا - فيما دون خمسة أوسق - أن تباع بخرصها يأكلها أهلها رطباً)، فروى أبو هريرة رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في العرايا في خمسة أوسق متفق عليه، وإنما يجوز بشروط خمسة : أحدها أن يكون دون خمسة أوسق ، وعنه يجوز في الخمسة ، والمذهب الأول لأن الأصل تحريم بيع الرطب بالتمر دون الخمسة بالخبر ، والخمسة مشكوك فيها فرد إلى الأصل . الثاني أن يكون مشتريها محتاجاً إلى أكلها رطباً ، لما روى محمود بن لبيد قال : قلت لزيد بن ثابت : ما عراياكم هذه ؟ فسمى رجالاً محتاجين من الأنصار : شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرطب يأتي ولا نقد بأيديهم يبتاعون به رطباً يأكلونه وعندهم فضول من التمر ، فرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبتاعوا العرية بخرصها من التمر يأكلونه رطباً متفق عليه ، والرخصة الثابتة لحاجة لا تثبت مع عدمها . الثالث أن لا يكون له نقد يشتري به للخبر . الرابع أن يشتريها بخرصها للخبر ، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم : رخص في العرايا أن تباع بخرصها كيلاً متفق عليه ، ولا بد أن يكون التمر معلوماً بالكيل للخبر ، وفي معنى الخرص روايتان إحداهما أن ينظر كم يجيء منها تمراً فيبيعها بمثله لأنه يخرص في الزكاة كذلك ، والثانية يبيعها بمثل ما فيها من الرطب لأن الأصل اعتبار المماثلة في الحال بالكيل ، وإذا خولف الدليل في أحدهما وأمكن أن لا يخالف في الآخر وجب . الخامس أن يتقابضا قبل تفرقهما لأنه بيع تمر بتمر فاعتبرت فيه أحكامه إلا ما استثناه الشرع ، والقبض فيها على النخل بالتخلية وفي التمر باكتياله ، فإن كان حاضراً في مجلس البيع اكتاله وإن كان غائباً مشى إلى التمر فتسلمه ، وإن قبضه أولاً ثم مشى إلى النخلة فتسلمها جاز ، واشترط الخرقي كون النخلة موهوبة لبائعها ، لأن العرية اسم لذلك ، واشترط القاضي وأبو بكر حاجة البائع إلى بيعها ، وحديث زيد ابن ثابت يرد ذلك مع أن اشتراطه يبطل الرخصة إذ لا تتفق الحاجتان مع سائر الشروط فتذهب الرخصة ، فعلى قولنا يجوز لرجلين شراء عريتين من واحد ، وعلى قولهما لا يجوز إلا ينقصا بمجموعهما عن خمسة أوسق .

ليست هناك تعليقات: