سيرة الصحابى الجليل سلمان الفارسى رضى الله عنه وارضاه

سلمان الفارسي
سيرة الصحابي الجليل سلمان الفارسي من أحسن القصص , وأروعها , واتمنى من جميع

الأعضاء ان يقرأها , ويرى كيف جاهد هذا العظيم الذي اطال الله في عمره حتى سن

بعد المائة , من مجوسي على دين آبائه ثم مسيحيا وختاما بالدين الكامل , شريعة التوحيد

الخالصة لله وحده , شريعة محمد عليه افضل الصلاة والسلام.


قالوا عنه
" سلمان منا أهل البيت"

رسول الله صلى الله عليه وسلم

( من لكم بمثل لقمان الحكيم ذلك امرؤ منا والينا أهل البيت ادرك العلم الأول والعلم الاخر

وقرا الكتاب الأول والاخر وبحر لا ينزف )

علي بن أبي طالب لما سئل عن مثيل لسلمان


من أقواله
- أشتري خوصا بدرهم فأعمله فأبيعه بثلاثة دراهم فأعيد درهما فيه وأنفق درهما على

عيالي وأتصدق بدرهم ، ولو أن عمر بن الخطاب نهاني عنه ما انتهيت.

( مصدر رزقه يوم كان أميرا على المدائن )

_ إنما مثل المؤمن في الدنيا كمثل المريض معه طبيبه الذي يعلم داءه ودواءه فإذا اشتهى

ما يضره منعه وقال لا تقربه فانك ان اتيته أهلكك , فلا يزال يمنعه حتى يبرأ من وجعه

وكذلك المؤمن يشتهي أشياء كثيرة مما قد فضل به غيره من العيش فيمنعه الله عز وجل

اياه ويحجره حتى يتوفاه فيدخله الجنة

- ثلاث أعجبتني حتى اضحكتني :

1- مؤمل دنياوالموت يطلبه

2- وغافل وليس بمغفول عنه

3- وضاحك ملء فيه لا يدري اساخط رب العالمين عليه أم راض عنه

وثلاث احزنني حتى ابكينني :

1- فراق محمد وحزبه

2- وهول المطلع

3- والوقوف بين يدي ربي عز وجل ولا ادري إلى جنة أو إلى نار .

- وذات يوم وهو سائر على الطريق لقيه رجل قادم من الشام ومعه حمل تين وتمر..

كان الحمل يؤد الشامي ويتعبه ، فلم يكد يبصر أمامه رجلا يبدو أنه من عامة الناس

وفقرائهم ، حتى بدا له أن يضع الحمل على كاهله ، حتى إذا أبلغه وجهته أعطاه شيئا نظير حمله..

وأشار للرجل فأقبل عليه ، وقال له الشامي : احمل عني هذا.. فحمله ومضيا معا.

وإذ هما على الطريق بلغا جماعة من الناس ، فسلم عليهم ، فأجابوا واقفين :

وعلى الأمير السلام .. وعلى الأمير السلام..؟ أي أمير يعنون..؟

هكذا سأل الشامي نفسه..

ولقد زادت دهشته حين رأى بعض هؤلاء يسارع صوب سلمان ليحمل عنه قائلين :

عنك أيها الأمير..

فعلم الشامي أنه أمير المدائن سلمان الفارسي ، فسقط في يده ، وهربت كلمات

الاعتذار والأسف من بين شفتيه ، واقترب ينتزع الحمل.

ولكن سلمان هز رأسه رافضا وهو يقول:

( لا ، حتى أبلغك منزلك )

- سُئل يوما : ما الذي يبغض الإمارة إلى نفسك.؟

فأجاب : " حلاوة رضاعها ، ومرارة فطامها"

ويدخل عليه صاحبه يوما بيته ، فإذا هو يعجن ، فيسأله :

أين الخادم..؟

فيجيبه قائلا :

( لقد بعثناها في حاجة ، فكرهنا أن نجمع عليها عملين )

- وحين هم سلمان رضي الله عنه ببناء هذا الذي يسمى مع التجوز بيتا ، سأل البناء : كيف ستبنيه..؟

وكان البناء حصيفا ذكيا ، يعرف زهد سلمان وورعه..

فأجابه قائلا :

لا تخف.. إنها بناية تستظل بها من الحر ، وتسكن فيها من البرد ،

إذا وقفت فيها أصابت رأسك ، وإذا اضطجعت فيها أصابت رجلك .

فقال له سلمان رضي الله عنه : ( نعم هكذا فاصنع )


السيرة
من بلاد فارس ، يجيء البطل هذه المرة..

ومن بلاد فارس ، عانق الإسلام مؤمنون كثيرون فيما بعد ، فجعل منهم أفذادا لا يلحقون في

الإيمان، وفي العلم.. في الدين ، وفي الدنيا..

وإنها لإحدى روائع الإسلام وعظائمه ، ألا يدخل بلدا من بلاد الله ، ويثير في إعجاز باهر ،

كل نبوغها ويحرك كل طاقاتها ، ويحرج خبء العبقرية المستكنة في أهلها وذويها..

فإذا الفلاسفة المسلمون.. والأطباء المسلمون.. والفقهاء المسلمون.. والفلكيون المسلمون..

والمخترعون المسلمون.. وعلماء الرياضة المسلمون..

وإذا بهم يبزغون من كل أفق ، ويطلعون من كل بلد ، حتى تزدحم عصور الإسلام الأولى

بعبقريات هائلة في كل مجالات العقل ، والإرادة ، والضمير.. أوطانهم شتى، ودينهم واحد..

ولقد تنبأ الرسول عليه السلام بهذا المد المبارك لدينه.. لا، بل وعد به وعد صدق من ربه الكبير

العليم.. ولقد زوي له الزمان والمكان ذات يوم ورأى رأي العين راية الإسلام تخفق فوق مدائن الأرض ، وقصور أربابها..

وكان سلمان الفارسي رضي الله عنه شاهدا.. وكان له بما حدث علاقة وثقى.

كان ذلك يوم الخندق. في السنة الخامسة للهجرة. إذ خرج نفر من زعماء اليهود قاصدين

مكة ، مؤلبين المشركين ومحزبين الأحزاب على رسول الله والمسلمين ، متعاهدين معهم على

أن يعاونوهم في حرب حاسمة تستأصل شأفة هذا الدين الجديد.

ووضعت خطة الحرب الغادرة ، على أن يهجم جيش قريش وغطفان "المدينة" من خارجها ،

بينما يهاجم بنو قريظة من الداخل ، ومن وراء صفوف المسلمين ، الذين سيقعون آنئذ بين شقّى رحى تطحنهم ، وتجعلهم ذكرى..

وفوجىء الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون يوما بجيش لجب يقترب من المدينة في عدة متفوقة وعتاد مدمدم.

وسقط في أيدي المسلمين ، وكاد صوابهم يطير من هول المباغتة.

وصور القرآن الموقف ، فقال الله تعالى :

( إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا )

أربعة وعشرون ألف مقاتل تحت قيادة أبي سفيان وعيينة بن حصن يقتربون من المدينة

ليطوقوها وليبطشوا بطشتهم الحاسمة كي ينتهوا من محمد ودينه ، وأصحابه..

وهذا الجيش لا يمثل قريشا وحدها.. بل ومعها كل القبائل والمصالح التي رأت في الإسلام خطرا عليها.

ورأى المسلمون أنفسهم في موقف عصيب..

وجمع الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه ليشاورهم في الأمر..

وطبعا ، أجمعوا على الدفاع والقتال .. ولكن كيف الدفاع ؟؟

هنالك تقدم الرجل الطويل الساقين ، الغزير الشعر ، الذي كان الرسول يحمل له حبا عظيما ، واحتراما كبيرا.

تقدم سلمان الفارسي وألقى من فوق هضبة عالية ، نظرة فاحصة على المدينة ، فألفاها

محصنة بالجبال والصخور المحيطة بها..

بيد أن هناك فجوة واسعة ، ومهيأة ، يستطيع الجيش أن يقتحم منها الحمى في يسر.

وكان سلمان رضي الله عنه قد خبر في بلاد فارس الكثير من وسائل الحرب وخدع القتال ،

فتقدم للرسول صلى الله عليه وسلم بمقترحه الذي لم تعهده العرب من قبل في حروبها..

وكان عبارة عن حفر خندق يغطي جميع المنطقة المكشوفة حول المدينة.

والله يعلم ، ماذا كان المصير الذي كان ينتظر المسلمين في تلك الغزوة لو لم يحفروا الخندق

الذي لم تكد قريش تراه حتى دوختها المفاجأة ، وظلت قواتها جاثمة في خيامها شهرا

وهي عاجزة عن اقتحام المدينة ، حتى أرسل الله تعالى عليها ذات ليلة ريح صرصر عاتية اقتلعت خيامها ، وبددت شملها..

ونادى أبو سفيان في جنوده آمرا بالرحيل إلى حيث جاءوا.. فلولا يائسة منهوكة..

خلال حفر الخندق كان سلمان رضي الله عنه يأخذ مكانه مع المسلمين وهم يحفرون

ويدأبون .. وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يحمل معوله ويضرب معهم.

وفي الرقعة التي يعمل فيها سلمان مع فريقه وصحبه ، اعترضت معولهم صخور عاتية ،

كان سلمان رضي الله عنه قوي البنية شديد الأسر ، وكانت ضربة واحدة من ساعده الوثيق

تفلق الصخر وتنشره شظايا ، ولكنه وقف أمام هذه الصخرة عاجزا.. وتواصى عليها بمن معه جميعا فزادتهم رهقا..

وذهب سلمان رضي الله عنه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنه في أن يغيروا

مجرى الحفر تفاديا لتلك الصخرة العنيدة المتحدية.

وعاد الرسول عليه الصلاة والسلام مع سلمان رضي الله عنه يعاين بنفسه المكان والصخرة

وحين رآها دعا بمعول ، وطلب من أصحابه أن يبتعدوا قليلا عن مرمى الشظايا..

وسمى بالله، ورفع كلتا يديه الشريفتين القابضتين على المعول في عزم وقوة ، وهوى

به على الصخرة ، فإذا بها تنثلم ، ويخرج من ثنايا صدعها الكبير وهجا عاليا مضيئا.

ويقول سلمان رضي الله عنه لقد رأيته يضيء ما بين لا بتيها ، أي يضيء جوانب المدينة..

وهتف رسول الله صلى الله عليه وسلم مكبرا :

" الله أكبر ..أعطيت مفاتيح فارس ، ولقد أضاء لي منها قصور الحيرة ، ومدائن كسرى ، وان أمتي ظاهرة عليها "

ثم رفع المعول ، وهوت ضربته الثانية ، فتكررت الظاهرة ، وبرقت الصخرة المتصدعة بوهج

مضيء مرتفع ، وهلل الرسول عليه السلام مكبرا :

" الله أكبر .. أعطيت مفاتيح الروم ، ولقد أضاء لي منها قصورها الحمراء ، وإن أمتي ظاهرة عليها "

ثم ضرب ضربته الثالثة فألقت الصخرة سلامها واستسلامها ، وأضاء برقها الشديد الباهر ،

وهلل الرسول وهلل المسلمون معه..

وأنبأهم أنه يبصر الآن قصور سورية وصنعاء وسواها من مدائن الأرض التي ستخفق

فوقها راية الله يوما ، وصاح المسلمون في إيمان عظيم :

هذا ما وعدنا الله ورسوله .. وصدق الله ورسوله..


الرحلة الإيمانية
وها هو ذا رضي الله عنه ، جالس هناك تحت ظل الشجرة الوارفة الملتفة أما داره "بالمدائن"

يحدث جلساءه عن مغامرته العظمى في سبيل الحقيقة ، ويقص عليهم كيف غادر دين قومه

الفرس إلى النصرانية ، ثم إلى الاسلام..قائلا :

( كنت رجلا من أهل أصبهان ، من قرية يقال لها "جي"

وكان أبي دهقان أرضه.

وكنت من أحب عباد الله إليه..

وقد اجتهدت في المجوسية ، حتى كنت قاطن النار التي نوقدها ، ولا نتركها تخبو..

وكان لأبي ضيعة ، أرسلني إليها يوما ، فخرجت ، فمررت بكنيسة للنصارى ، فسمعتهم

يصلون ، فدخلت عليهم أنظر ما يصنعون ، فأعجبني ما رأيت من صلاتهم ، وقلت لنفسي

هذا خير من ديننا الذي نحن عليه ، فما برحتهم حتى غابت الشمس ، ولا ذهبت إلى ضيعة

أبي ، ولا رجعت إليه حتى بعث في أثري...

وسألت النصارى حين أعجبني أمرهم و صلاتهم عن أصل دينهم ، فقالوا في الشام

وقلت لأبي حين عدت اليه :

اني مررت على قوم يصلون في كنيسة لهم فأعجبتني صلاتهم ، ورأيت أن دينهم خير من ديننا..

فحاورني وحاورته .. ثم جعل في رجلي حديدا وحبسني ..

وأرسلت إلى النصارى أخبرهم أني دخلت في دينهم وسألتهم إذا قدم عليهم ركب من الشام ،

أن يخبروني قبل عودتهم إليها لأرحل إلى الشام معهم ، وقد فعلوا ، فحطمت الحديد

وخرجت ، وانطلقت معهم الى الشام..

وهناك سألت عن عالمهم ، فقيل لي هو الأسقف ، صاحب الكنيسة ، فأتيته وأخبرته خبري ،

فأقمت معه أخدم ، وأصلي وأتعلم ..

وكان هذا الأسقف رجل سوء في دينه ، اذ كان يجمع الصدقات من الناس ليوزعها ، ثم يكتنزها لنفسه.

ثم مات..

وجاءوا بآخر فجعلوه مكانه ، فما رأيت رجلا على دينهم خيرا منه ، ولا أعظم منه رغبة

في الآخرة ، وزهدا في الدنيا ودأبا على العبادة ..

وأحببته حبا ما علمت أني أحببت أحدا مثله قبله.. فلما حضر قدره قلت له :

إنه قد حضرك من أمر الله تعالى ما ترى ، فبم تأمرني وإلى من توصي بي ؟ قال :

أي بني، ما أعرف أحدا من الناس على مثل ما أنا عليه إلا رجلا بالموصل..

فلما توفي ، أتيت صاحب الموصل ، فأخبرته الخبر ، وأقمت معه ما شاء الله أن أقيم ،

ثم حضرته الوفاة ، فسألته فأمرني أن ألحق برجل في عمورية في بلاد الروم ،

فرحلت إليه ، وأقمت معه ، واصطنعت لمعاشي بقرات وغنمات..

ثم حضرته الوفاة ، فقلت له : إلى من توصي بي ؟ فقال لي :

يا بني ما أعرف أحدا على مثل ما كنا عليه ، آمرك أن تأتيه ، ولكنه قد

أظلك زمان نبي يبعث بدين ابراهيم حنيفا..

يهاجر الى أرض ذات نخل بين جرتين ، فان استطعت أن تخلص اليه فافعل.

وإن له آيات لا تخفى ، فهو لا يأكل الصدقة.. ويقبل الهدية.. وإن بين كتفيه خاتم النبوة ، إذا رأيته عرفته.

ومر بي ركب ذات يوم ، فسألتهم عن بلادهم ، فعلمت أنهم من جزيرة العرب.

فقلت لهم:

أعطيكم بقراتي هذه وغنمي على أن تحملوني معكم إلى أرضكم ؟

قالوا : نعم.

واصطحبوني معهم حتى قدموا بي وادي القرى ، وهناك ظلموني ، وباعوني إلى رجل

من يهود.. وبصرت بنخل كثير ، فطمعت أن تكون هذه البلدة التي وصفت لي ، والتي

ستكون مهاجر النبي المنتظر.. ولكنها لم تكنها.

وأقمت عند الرجل الذي اشتراني ، حتى قدم عليه يوما رجل من يهود بني قريظة ، فابتاعني

منه ، ثم خرج بي حتى قدمت المدينة ..

فوالله ما هو إلا ان رأيتها حتى أيقنت أنها البلد التي وصفت لي..

وأقمت معه أعمل له في نخله في بني قريظة حتى بعث الله رسوله وحتى قدم المدينة

ونزل بقباء في بني عمرو بن عوف.

وإني لفي رأس نخلة يوما ، وصاحبي جالس تحتها إذ أقبل رجل من يهود ، من بني عمه ، فقال يخاطبه :

قاتل الله بني قيلة إنهم ليتقاصفون على رجل بقباء ، قادم من مكة يزعم أنه نبي..

فوالله ما إن قالها حتى أخذتني العرواء ، فرجفت النخلة حتى كدت أسقط فوق صاحبي

ثم نزلت سريعا ، أقول : ماذا تقول ؟ ما الخبر ؟

فرفع سيدي يده ولكزني لكزة شديدة ، ثم قال : مالك ولهذا..؟ أقبل على عملك..

فأقبلت على عملي.. ولما أمسيت جمعت ما كان عندي ثم خرجت حتى جئت رسول الله

صلى الله عليه وسلم بقباء.. فدخلت عليه ومعه نفر من أصحابه ، فقلت له:

إنكم أهل حاجة وغربة ، وقد كان عندي طعام نذرته للصدقة ، فلما ذكر لي مكانكم

رأيتكم أحق الناس به فجئتكم به..

ثم وضعته ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه :

كلوا باسم الله.. وأمسك هو فلم يبسط إليه يدا..

فقلت في نفسي : هذه والله واحدة .. إنه لا يأكل الصدقة..

ثم رجعت وعدت إلى الرسول عليه السلام في الغداة ، أحمل طعاما ، وقلت له عليه السلام :

إني رأيتك لا تأكل الصدقة وقد كان عندي شيء أحب أن أكرمك به هدية ، ووضعته

بين يديه ، فقال لأصحابه كلوا باسم الله.. وأكل معهم..

قلت لنفسي : هذه والله الثانية.. إنه يأكل الهدية..

ثم رجعت فمكثت ما شاء الله ، ثم أتيته ، فوجدته في البقيع قد تبع جنازة ، وحوله أصحابه

وعليه شملتان مؤتزرا بواحدة ، مرتديا الأخرى ، فسلمت عليه ، ثم عدلت لأنظر أعلى ظهره ،

فعرف أني أريد ذلك ، فألقى بردته عن كاهله ، فإذا العلامة بين كتفيه خاتم النبوة ، كما وصفه لي صاحبي..

فأكببت عليه أقبله وأبكي ، ثم دعاني عليه الصلاة والسلام فجلست بين يديه ، وحدثته

حديثي كما أحدثكم الآن..

ثم أسلمت.. وحال الرق بيني وبين شهود بدر وأحد..

وفي ذات يوم قال الرسول عليه الصلاة والسلام :

" كاتب سيدك حتى يعتقك "

فكاتبته ، وأمر الرسول أصحابه كي يعاونوني. وحرر الله رقبتي ، وعشت حرا مسلما ،

وشهدت مع رسول الله غزوة الخندق ، والمشاهد كلها )

هذه القصة مذكورة في الطبقات الكبرى لابن سعد ج4.

بهذه الكلمات الوضاء العذاب.. تحدث سلمان الفارسي عن مغامرته الزكية النبيلة العظيمة

في سبيل بحثه عن الحقيقة الدينية التي تصله بالله ، وترسم له دوره في الحياة..

فأي إنسان شامخ كان هذا الإنسان..؟

أي تفوق عظيم أحرزته روحه الطلعة ، وفرضته إرادته الغلابة على المصاعب فقهرتها،

وعلى المستحيل فجعلته ذلولا..؟

ماذا نتوقع أن يكون إسلام رجل هذه همته ، وهذا صدقه؟

لقد كان إسلام الأبرار المتقين ، وقد كان في زهده ، وفطنته ، وورعه أشبه الناس بعمر

ابن الخطاب رضي الله عنه .

أقام أياما مع أبي الدرداء في دار واحدة.. وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقوم الليل

ويصوم النهار.. وكان سلمان يأخذ عليه مبالغته في العبادة على هذا النحو.

وذات يوم حاول سلمان أن يثني عزمه عن الصوم ، وكان نافلة..

فقال له أبو الدرداء معاتبا رضي الله عنه : أتمنعني أن أصوم لربي ، وأصلي له..؟ّ

فأجابه سلمان رضي الله عنه قائلا :

( إن لعينيك عليك حقا ، وإن لأهلك عليك حقا ، صم وأفطر ، وصل ونم )

فبلغ ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فقال :

" لقد أشبع سلمان علما "

وكان الرسول عليه السلام يطرى فطنته وعلمه كثيرا ، كما كان يطري خلقه ودينه..

ويوم الخندق ، وقف الأنصار يقولون :

سلمان منا.. ووقف المهاجرون يقولون بل سلمان منا..

وناداهم الرسول صلى الله عليه وسلم قائلا :

" سلمان منا آل البيت "

وإنه بهذا الشرف لجدير..

وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يلقبه بلقمان الحكيم سئل عنه بعد موته فقال :

[ ذاك امرؤ منا وإلينا أهل البيت.. من لكم بمثل لقمان الحكيم..؟

أوتي العلم الأول ، والعلم الآخر ، وقرأ الكتاب الأول والكتاب الآخر ، وكان بحرا لا ينزف ]

ولقد بلغ في نفوس أصحاب الرسول عليه السلام جميعا المنزلة الرفيعة والمكان الأسمى.

ففي خلافة عمر رضي الله عنه جاء المدينة زائرا ، فصنع عمر رضي الله عنه ما لا نعرف

أنه صنعه مع أحد غيره أبدا ، إذ جمع أصحابه وقال لهم :

( هيا بنا نخرج لاستقبال سلمان )

وخرج بهم لاستقباله عند مشارف المدينة.

لقد عاش سلمان رضي الله عنه مع الرسول صلى الله عليه وسلم منذ التقى به وآمن معه

مسلما حرا ، ومجاهدا وعابدا.

وعاش مع خليفته أبي بكر ، ثم أمير المؤمنين عمر ، ثم الخليفة عثمان رضي الله عنهم

حيث لقي ربه أثناء خلافته.

وفي معظم هذه السنوات ، كانت رايات الاسلام تملأ الأفق ، وكانت الكنوز والأموال تحمل

إلى المدينة فيئا وجزية ، فتوزع على الناس في صورة أعطيات منتظمة ، ومرتبات ثابتة.

وكثرت مسؤوليات الحكم على كافة مستوياتها ، فكثرت الأعمال والمناصب تبعا لها..

فأين كان سلمان رضي الله عنه في هذا الخضم..؟

وأين نجده في أيام الرخاء والثراء والنعمة تلك..؟

نراه في ثوبه القصير الذي انحسر من قصره الشديد إلى ركبته..

لقد كان عطاؤه وفيرا .. كان بين أربعة وستة آلاف في العام ، بيد أنه كان يوزعه

جميعا ، ويرفض أن يناله منه درهم واحد ، ويقول :

( أشتري خوصا بدرهم ، فأعمله ، ثم أبيعه بثلاثة دراهم ، فأعيد درهما فيه ،

وأنفق درهما على عيالي ، وأتصدق بالثالث..

ولو أن عمر بن الخطاب نهاني عن ذلك ما انتهيت )

لقد كان بعضنا يظن حين يسمع عن تقشف بعض الصحابة وورعهم ، مثل أبي بكر

الصديق وعمر وأبي ذر وإخوانهم رضي الله عنهم ، أن مرجع ذلك كله طبيعة الحياة

في الجزيرة العربية حيث يجد العربي متاع نفسه في البساطة..

فها نحن أمام رجل من فارس .. بلاد البذخ والترف والمدنية ، ولم يكن من الفقراء

لكنه يرفض المال والثروة والنعيم ، ويصر أن يكتفي في يومه بدرهم يكسبه من عمل يده ويقول :

(ىإن استطعت أن تأكل التراب ولا تكونن أميرا على اثنين ، فافعل )

كان عطاء سلمان رضي الله عنه خمسة آلاف ، وكان على ثلاثين ألفا من الناس

يخطب في عباءة يفترش نصفها ، ويلبس نصفها.

ترى ما باله يصنع كل هذا الصنيع ، ويزهد كل ذلك الزهد ، وهو الفارسي ، ابن النعمة ، وربيب الحضارة..؟

لنستمع الجواب منه وهو على فراش الموت تتهيأ روحه العظيمة للقاء ربها العلي الرحيم.

دخل عليه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يعوده فبكى ..

فقال له سعدرضي الله عنه :

( ما يبكيك يا أبا عبد الله..؟ لقد توفي رسول الله وهو عنك راض )

فأجابه سلمان رضي الله عنه :

( والله ما أبكي جزعا من الموت ، ولا حرصا على الدنيا ، ولكن رسول الله صلى الله

عليه وسلم عهد إلينا عهدا ، فقال :

ليكن حظ أحدكم من الدنيا مثل زاد الراكب، وهأنذا حولي هذه الأساود )

يعني بالأساود الأشياء الكثيرة

قال سعد رضي الله عنه فنظرت ، فلم أرى حوله إلا جفنة ومطهرة ، فقلت له :

( يا أبا عبدالله اعهد إلينا بعهد نأخذه عنك )

فقال رضي الله عنه :

( يا سعد : اذكر عند الله همتك إذا هممت.. وعند حكمتك إذا حكمت.. وعند يدك إذا قسمت..)

هذا هو إذن الذي ملأ نفسه غنى ، بقدر ما ملأها عزوفا عن الدنيا بأموالها ، ومناصبها

وجاهها.. عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه وإلى أصحابه جميعا .

ولقد حفظ سلمان العهد ومع هذا فقد هطلت دموعه حين رأى روحه تتهيأ للرحيل ،

مخافة أن يكون قد جاوز المدى.

ولم يكن هناك من طيبات الحياة الدنيا شيء ما يركن إليه سلمان لحظة ، أو تتعلق

به نفسه أثارة ، إلا شيئا كان يحرص عليه أبلغ الحرص ، ولقد ائتمن عليه زوجته ،

وطلب إليها أن تخفيه في مكان بعيد وأمين.

وفي مرض موته وفي صبيحة اليوم الذي قبض فيه ، ناداها :

( هلمي خبيك التي استخبأتك )

فجاءت بها ، وإذا هي صرة مسك ، كان قد أصابها يوم فتح "جلولاء" فاحتفظ بها لتكون عطره يوم مماته.

ثم دعا بقدح ماء نثر المسك فيه ، ثم ماثه بيده ، وقال لزوجته :

( انضحيه حولي فإنه يحضرني الآن خلق من خلق الله ، لا يأكلون الطعام ، وإنما يحبون الطيب )

فلما فعلت قال لها : ( اجفئي علي الباب وانزلي )

ففعلت ما أمرها به..

وبعد حين صعدت إليه ، فإذا روحه المباركة قد فارقت جسده ودنياه.

قد لحقت بالملأ الأعلى ، وصعدت على أجنحة الشوق إليه ، إذ كانت على موعد هناك

مع الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ..

ومع ثلة مجيدة من الشهداء والأبرار.

لطالما برح الشوق الظامئ بسلمان رضي الله عنه ..

وآن اليوم أن يرتوي ، وينهل ..

ليست هناك تعليقات: